خاص

المالوف القسنطيني الجزائري يتربع على عرش عشاقه بفرنسا وأوروبا

فرقة "أوركسترا سابا" تحيي سهرة فنية في المالوف القسنطيني وتلهب القاعة

مازال أفراد الجالية الجزائرية بخارج الوطن بعديد الدول منها فرنسا تحديدا، مرتبطين بتراثناارتباطا وثيقا قلبا وقالبا، بتنوعه على كافة فصوله، ولا يفوتون فرصة إلا ويقوموا بإحيائه والتعريف به وتقديمه لينتشر عبر العالم.

ومن بين هذا التراث التاريخي الثقافي من الفن الشعبي الجزائري الأندلسي الأصيل “المالوف القسنطيني”، الذي ذاع صيته ولقي انتشارا كبيرا عبر عديد الدول منها باريس فرنسا.

ومن بين الجهات المهتمة بهذا النوع وفن “المالوف”، والتي دأبت على إحيائه فرقة” أوركسترا سابا”، التابعة للجمعية الثقافة الموسيقية بباريس، والتي واصلت نشاطها منذ عشرية ونيف من العطاء من أصيل النغم الجزائري، وفن موروث التراث الثقافي لفن “المالوف”، وتواصل نضالها الدؤوب في التعمق في البحث في الموروث الموسيقي التقليدي الجزائري وتسليط الضوء عليه، وربط الأجيال الشابة بجذورها بأرض المهجر.

 

فن “المالوف” ينهض من الذاكرة

يرتبط فن “المالوف”، ذو الجذور الأندلسية، بالهوية الثقافية للمغرب العربي،ويعرف “المالوف” بأنه فن مركب، قائم على نوبات موسيقية متعددة، تبدأ بتوشية وتتخللها مقاطع صوتية وإيقاعات مختلفة.

إن “المالوف” هو من أعرق الفنون السمعية العربية، ونصوصه تمتد لأكثر من 500 عام، وله جذور ضاربة في حضارة الأندلس، وتتنوع العروض بين “المالوف” و”الموشحات” و”المدائح”، المحافظ عليه من طرف أكبر الشيوخ الذين وثقوا الإرث الغنائي القسنطيني والمغاربي بعشرات القطع الغنائية التي لازالت تغنى لحد اليوم.تنتمي موسيقى “المالوف” إلى الموسيقى الكلاسيكية، وهي نوع من الغناء الأندلسي في الجزائر، حيث ينتمي “المالوف” القسنطيني للمدرسة الإشبيلية، تناقل سمعيا من جيل إلى آخر.

“المالوف” ما يزال ينبض بالحياة من خلال أصوات شابة وواعدة، حاملة المشعل، ومكملة لمسيرة الشيوخ الذين أخلصوا لهذا التراث وتركوا رصيدا غنيا يفتخر به. ان هذا الفن ليس مجرد إيقاع موسيقي، بل سجل حي يوثق ذاكرة الأمة ويبرز روحها، مشددا على أهمية الحفاظ على التراث غير المادي، لذلك تعمل “أوركسترا سابا” بشكل مستمر على توثيق وتصنيف هذا النوع الفني ضمن إستراتيجيتها لتثمين الموروث الثقافي الوطني الجزائري.

 

سهرة بأبعاد ثقافية تاريخية

لم تكن السهرة مجرد أمسية واحتفالية فنية فقط، بل كانت مناسبة ثقافية سلطت الضوء على أهمية التراث الموسيقي كجزء من الهوية الوطنية، ووسيلة لتعزيز الروابط الثقافية، بحيث جاء الحدث ليمثل فرصة ثمينة استثنائية لتعريف العالم بجماليات المالوف القسنطيني الجزائري ومقوماته، وتجديد الالتزام بالحفاظ عليه كجزء أصيل من التراث الوطني الجزائري الأصيل.

بل كانت ليلة تحمل أبعادا ثقافية وتاريخية بجذور عميقة، للتعريف بالمالوف القسنطيني الجزائري. كانت أمسية مبهرة لفتت الانتباه وخطفت الأضواء من فرقة “أوركسترا سابا”، التي أبدع أعضاؤها وجوقها في تقديم طابع “المالوف” المميز، وسط تفاعل كبير من الجمهور، مستحضرين أجواء الماضي.فكانت الليلة رحلة موسيقية جديدة تحت عنوان “أغمض عينيك، دع نفسك تهدأ بالإيقاعات بعيدا عن الضوضاء والتوتر”، لحظات نادرة بحيوية مليئة بالعاطفة ومشاعر الموسيقى الجياشة، وذلك بفضل الجمهور الذواق الذي يسمع ويفهم معنى “المالوف”، كونه فن راق ونبيل، يستقطب اهتمام متذوقي الفن الأصيل والعريق، وله عشاقه من مختلف الأجيال.

 

فرقة “أوركسترا سابا” والثقافة الموسيقية في ومضة

انطلقت فكرة تأسيس الثقافة الموسيقية سنة 2013 بمدينة الأضواء باريس الساطعة، كانت فكرة تأسيس جمعية غير ربحية من طرف العضوين المؤسسين الأستاذ “أمين خطاط” والأستاذة “زاهية بومعيزة”.

والذي كان الهدف الأسمى الأول منها هو إضفاء الحيوية الإدارية على فرقة “سابا”، التي تأسست سنة 2011 من طرف الأستاذ “أمين خطاط”، وهي فرقة “مالوف” شبه احترافية من مدينة الجسور المعلقة قسنطينة العريقة.

وعلى مر السنين، تطورت ثقافة الموسيقى من فرقة موسيقية إلى مدرسة موسيقية متكاملة غير ربحية. وفي سنة 2013، توسع المجال وبرزت أفاق جديدة، أفسحت فرقة “سابا” المجال لدروس موسيقية أسبوعية لعشاق الموسيقى المغاربية التقليدية.

 

أهـداف الجمعية

يهدف مشروع الثقافة الموسيقية، إلى تعزيز وإدامة التراث الموسيقي التقليدي الغني في المغرب العربي عموما.تميزت السنوات الأولى للجمعية بتدريبات في قبو مسرح باريسي صغير يقع في الدائرة الـ 19. كان المكان الأمثل لخطواتها الأولى، ووضع أسس هيكلها، وتكوين جوهرهاـ ورغم محدودية الموارد المالية، دأبت الجمعية على تنظيم حفل موسيقي واحد سنويا، مستعينين بأعضائها وأصدقائها في المساهمة في نجاح الحدث.

 

التكيف مع الوباء والتطوير عن بعد

بالصبر، الثبات، العزيمة والإصرار أمام المعيقات، خاصة لما يتعلق الأمر بالأمراض والأوبئة التي تحد من نشاط وتحرك أفراد الجمعية، واصل أعضاء الفرقة تحديهم عاليا بكل قوة.

ومع ذلك، وكما كان الحال في بقية أنحاء العالم، واجهت الجمعية جائحة كوفيد-19، صعوبات التي حرمتها من اجتماعاتها الأسبوعية، ومن أي فرصة لتقديم العروض عامة. لكن هذه الفترة العصيبة أتاحت للثقافة الموسيقية اكتشاف وتطوير أسلوبهابالعمل عن بعد،حيثاستغرق الأمر بعض الوقت للتأقلم، لكنها تمكنت أخيرا من إجراء تسجيلات عن بعد، حيث يسجل كل مشارك نفسه في منزله باستخدام هاتفه، ثم تعالج هذه التسجيلات في برنامج لمزج الصوت.

ومع مرور الوقت، تمكنت ثقافة الموسيقى من توفير ما يكفي لاستئجار مساحة داخل المدينة الدولية للفنون المرموقة في باريس، حيث بقيت هناك حتى نهاية موسم 2021-2022.

وبالتحدي فتحت الجمعية أبوابها لتسجيل وإنتاج الموسيقى ذاتيا بعد جائحة كوفيد-19، كما قامت أيضا بإنشاء مقاطع فيديو لمرافقة كل تسجيل ومشاركتها على وسائل التواصل الاجتماعي الخاصة بهم، مما سمح لهم بالبقاء على اتصال مع أعضائها وجمهورها.

 

“أوركسترا سابا” والتوسع الدولي،العصر الجديد لثقافة الموسيقى

منذ موسم 2022-2023، حظيت جمعية الثقافة الموسيقية بفرصة الاستفادة من قاعة في بلدية باريس، وقد كان هذا بمثابة نعمة للجمعية، إذ إن تمويلها الذاتي بالكامل من مساهمات أعضائها، قد وفّر عليها استئجار قاعة في المدينة الدولية للفنون جزء كبيرا من ميزانيتها السنوية. وبفضل هذا التوفير، تمكنت الجمعية من تنظيم حفلات موسيقية في مختلف قاعات العروض الباريسية، مما أكسبها الخبرة والشهرة.

وتمكنت الجمعية الثقافة الموسيقية أيضا، من التعاون مع جمعيات أخرى في مدينتي رين ومونبلييه، حيث تمت دعوتها لتقديم عروض.

 

التجربة الدولية

بتوسيع نشاطاتها وعروضها الموسيقية، وتطلعاتها لآفاق مستقبلية للمشاركات الدولية، حظيت جمعية الثقافة الموسيقية بشرف تقديم عرض في قاعة “يوهانس” برامز بفيينا، النمساوكانت هذه أول تجربة دولية لها.

 

 إسم”أوركسترا سابا”

في سنة 2023، عشية الذكرى الـ 10 لتأسيس الجمعية، قرر أعضاء الثقافة الموسيقية العودة إلى إسم”أوركسترا سابا” المسرحي، إذ كان هذا، بالصدفة، عنوان حفلها في فيينا بالنمسا. فأعجبهم الاسم، فقرروا الاحتفاظ به تكريما لهذه التجربة الرائعة وهكذا، اكتملت الدائرة.

واكتملت الصورة ومنها اكتشف الجوهر النابض بالحياة لجمعية ثقافة موسيقية، المتخصصة في الحفاظ على تعزيز التقاليد الموسيقية المغاربية الغنية بالتراث الزاخر وكنوزه الدفينة.

هذه قصة الثقافة الموسيقية، جمعية ولدت من شغفٍ موسيقيٍ، تحافظ على التراث الموسيقي التقليدي للمغرب العربي. كل نغمةٍ تعزف، وكل حفلةٍ تقام، وكل درسٍ يدرس، تقربه خطوة نحو تحقيق حلمه.

الأستاذ الحاج نورالدين أحمد بامون ستراسبورغ فرنسا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى