روبرتاج

الـكـتـابـات الـحـائـطـيـة

مُتنفّس الشباب الجزائري للتعبير عن مكبوتاته

بقلم: رامـي الـحـاج

استفحلت ظاهرة الكتابة على الجدران في الشوارع الجزائرية، حيث أصبحت تعبّر عن انشغالات الشباب الجزائري ومكبوتاته في كلّ المجالات سواء الاجتماعية، النفسية أو العاطفية، إذ اختار هؤلاء الحائط من أجل تحويله إلى لوحة فنية أحيانا تنال إعجاب المتجوّلين وأحيانا أخرى تبقى مُجرد خربشات وتُرّهات تُثير السّخرية، وبين هذا وذاك، تبقى العبارات المُدوّنة رأيٌ يُريد صاحبه إيصاله والتّعبير عنه برسم أو بعبارات صريحة ذات معنى.

باتت العبارات الحائطية تشدُّ انتباه المتجوّلين في الشوارع الذين عادة ما تُثير استغرابهم تارة وسخريتهم تارة أخرى، كتاباتٌ مُختلفة تُلمّح لوجود مكبوتات يُحاول أصحابها تفريغها أو إيصالها إلى الطرف الآخر عبر أحرف وإشارات بعبارات صريحة واضحة، فهذه الظاهرة تجاوزت في بعض أحياء المدن الحدود الأخلاقية والاجتماعية، فلم تسلم جدران مختلف المؤسسات واللوحات الإشهارية من هذا السلوك الطائش الذي يتأسّفُ له السكان ولم يكفيها الإجرام المتفشي والأوساخ المنتشرة هنا وهناك، حتى يزيد عليها هؤلاء الذين أشهر بعضهم انحرافهم أمام الملأ من خلالها.

 كلام فاحش، حرب بين المناصرين، توجيه رسائل للسياسيين

صارت الكتابات الحائطية وسيلة للحرب الباردة بين المناصرين للفرق الكروية المختلفة، فمن خلال تجولنا ببعض الشوارع، تبين لنا أنّ هذه الكتابات تختلف من شارع إلى آخر باختلاف المكان، فشارع الحمري بوهران على سبيل المثال، يعرف كتابات تصبُّ مجملها في تأييد فريق “مولودية وهران” كعبارات “فيف المولودية”و”مولودية شواكر ما يهبطوش”، “عميد الأندية واللي فور فور”. كما تحمل بعض الكتابات الحائطية أيضا الكثير من الكلام الفاحش من سبّ وشتم، حيث تتمحور أغلبها حول القصص الغرامية لهؤلاء الشباب، إضافة إلى فضح بعض القصص الغرامية للفتيات، إلى جانب قدح شخصيات معروفة وطنيا ومحليا، ما يجعل هذه الظاهرة تأخذ منحى خطيرا للغاية حتى أنها صارت الطريقة المفضلة لشريحة كبيرة من المجتمع والفئة الحساسة جدا، وهي فئة الشباب والمراهقين الذين فضلوا التعبير عن مكبوتاتهم في الخفاء وعن طريق الكتابة والرسم. أمّا بالقرب من المؤسسات التربوية فكل العبارات المكتوبة في جدرانها تصب في خانة التهميش، الحقرة، واللامساواة.

أمّا الذين يعانون الحرمان من مناصب الشغل رغم مستواهم التعليمي، إلا أنهم لم يجدوا أمامهم غير الجدران للتعبير عن همومهم، عبارات معظمها تترجمُ الغضب والاستياء من المسئولين اللامسؤولين. كما تتميز بعض الكتابات الحائطية أيضا بكلمات تتعلّق بالتعبير عن الحق في السكن وغيرها. وقد تعدّت تلك الكتابات في بعض الأماكن لتُكسّر حاجز المجتمع المحافظ وتحمل في طياتها كلمات بذيئة تخدش الحياء وألفاظ أقل ما يقال عنها بأنها سوقية لا يمكن نقلها أو تقبل فكرة كتابتها مهما كان الحال، وعلى الرغم من المحاولات المتكررة لمصالح البلدية لإزالتها بالطلاء، إلا أنها سرعان ما تعود لتؤكد على أن أصحابها يُصرُّون على إيصال رسائلهم إلى الأشخاص أو الهيئات أو ما شابه ذلك.

لغة يستعملها الشباب للتعبير عن أفكارهم

أكد المختص في علم الاجتماع (يوسف.ح) أن ظاهرة الكتابات الحائطية تطورت، خلال السنوات الأخيرة، وتحوّلت إلى لغة يستعملها الشباب للتعبير عن أفكارهم، والتعبير عن الواقع الاجتماعي المعيش، فهذه الكلمات الحائطية حسبه هي عبارة عن حالة إفراز عن شعور يختلج كاتبها سواء فرح أو حزن أو غضب، كما هو حال الظاهرة في الثانوي والمتوسطات، والتي تعج جدرانها بالكتابات الغرامية والعاطفية، إضافة إلى تصوير أشكال مشينة على مداخل الثانويات وكتابة أسماء بنات وربطها بأشكال غرامية يقصد بها كاتبها المراهق التعبير عن حبه وغرامه، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل تعد إلى ذكر الأستاذ والمدير بسوء عبر سبّهم وإهانتهم له، وهذا أمر يدل أيضا على العلاقات المتوترة بين الطلبة وأساتذتهم.

كما أشار الأستاذ (يوسف.ح) إلى أنّ الكتابات الجدرانية ظاهرة واقعية تنمُّ عن وجود ضغط يُحاول أصحابه التعبير عنه وإيصاله إلى الجهات المعنية خاصة المتعلقة بالأوضاع الاجتماعية أو السياسية والتي تمسُّ بعض السّياسيين والمسؤولين خاصة في فترة الانتخابات، أين يتم وصفهم بأوصاف مشينة وتوجيه الاتهامات لهم بالتقصير وسوء التسيير والتهرب من مشاكل المواطنين لتصبح الظاهرة ملجأ آخر للتعبير عن الأفكار والمشاعر المكبوتة.

 كُل الجدران أصبحت صالحة للتعبير

في المدن الكبرى مثل عنابة، قسنطينة، سطيف، بجاية، الجزائر العاصمة ووهران، يكفي أن تمد عينيك إلى ما يصادفك من الشارع، لتواجهك كتابات مختلفة لم يفرق أصحابها بين جدار بيت وجدار مؤسسة عمومية، فالجدران كلها أصبحت صالحة للتعبير، وهذا وجه آخر من أوجه التداخل.

وإذا استبعدنا الكتابات التوجيهية والإشهارية، من قبيل “لا ترموا الأوساخ هنا” أو “ممنوع التبول” أو “انتخب هذا الحزب” أو “هنا تباع كباش العيد”، لأنها ذات رسالة محدودة وغايتها واضحة المعالم، فإن الرسائل التي تعبر عن واقع الشباب تأتي في الصدارة. نقرأ على سبيل الالمثال لا الحصر” رانا تعبنا يا غاشينا”، أي “لقد تعبنا يا أهلنا”، “أين أنتم يا مسؤولين؟”، وكلها شعارات، بحسب أحد أساتذة العلوم السياسية “تشير إلى أن هناك جيلًا بات يشعر بالاختناق في فضاء جزائري لا يراعي تطلعاته، مع تردده في اتخاذ أي خطوة باتجاه الثورة على الوضع، خوفاً من الوقوع في الخراب، بالنظر إلى ما يراه عند جيرانه العرب، فلم يبق له حل واحد إلا الحلم بالهجرة”.

سابقًا، كانت الكتابات ذات البعد الجنسي مقصورة على جدران الفضاءات المغلقة، خاصة المراحيض العمومية، بما فيها مراحيض المساجد التي لم تسلم من ذلك، أما اليوم، فقد بدأت تعلن عن نفسها، بخروج بعضها إلى الجدران الخارجية، من ذلك المقولة التي نقرأها باللغة الفرنسية “لسنا شواذًا جنسيًا، نحن بشر مثلكم”، وهي دلالة على أن هناك واقعًا مسكوتًا عنه وفئة تعبّر عن نفسها بطريقتها. والسائد أن الشاب (الذكور) هو من ينآى بكتابة هذه الشعارات والمواقف على الجدران، غير أننا صادفنا في بعض الكتابات، أنّ الضمير المستعمل فيها، المتكلم المؤنث، أنها كُتبت بيد فتاة أو برغبة منها، من ذلك “أنا امرأة لن تنسى أبدًا”، و”لماذا ترون جسدي لا عقلي؟”.

وفي هذا السياق، يقول خريج جامعة وهران (عبد الغني.ع):” لقد ولى الزمن الذي يُعبّر فيه الرجل بالنيابة عن المرأة، وجاء زمن تتولى فيه المرأة التعبير عن نفسها دون وصاية، وهيمنتها على سوق العمل والدراسة دليل على ذلك”.

 خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية

لجأ الجزائريون للكتابات الحائطية خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية كوجه من وجوه المقاومة الشعبية، ولهذه الكتابات التي يتعاطى معها الباحثون في الاتصال وعلم النفس والأمن والاجتماع بصفتها أحد المداخل لدراسة المزاج العام للمجتمع الذي تنتشر داخله، تاريخ في الفضاء الجزائري، يعود إلى الفترة الاستعمارية الفرنسية، حيث كانت تشكل أحد وجوه المقاومة الشعبية، عادة ما كانت تكتب باللغة الفرنسية حتى يفهمها الطرف الموجهة إليه، وكان القضاء الفرنسي يحاكم كاتبيها من الجزائريين، بتهمة التحريض على زعزعة الأمن العام والإساءة إلى رموز الدولة الفرنسية.

 الممنوع تفضحه الجدران

وقال أخصائي علم الاجتماع (محمد الأمين.ع) أن “الممنوع تفضحه الجدران” موضحا أنه “عندما تسكت الأفواه عن الكلام تنطق الكتابات على الجدران وهي عبارات مقتضبة معبرة عن معنى معين لا يفهمه سوى الشباب”. وشدد في السياق نفسه، على أن تلك الكتابات هي عبارة عن “هروب من واقع معيش” مضيفا بأن الكتابات الحائطية ارتبطت خلال الأعوام الأخيرة بمشكلات ويوميات الشباب على وجه الخصوص.

وحول يوميات الشاب الجزائري يقول إن ظاهرة “الهجرة السرية” كثيرا ما يعبر عنها الشباب بكلمات على الجدران مثل “الهربة” أو المصطلح الجزائري الشعبي “الحراقة”. وأشار أيضا إلى أن الكتابات الحائطية تمثل هدفا للشباب الذين يريدون أن يصنعوا لأنفسهم عالما يُبيح فيها ذلك الممنوع مثل الحب ومناصرته لفريق دون آخر أو للتعبير عن انشغالاته اليومية كالسكن والعمل والهجرة أيضا.

 معاك يالخضرا.. عشق كروي على الحائط

إنّ ما يثير الانتباه هو أنه كثيرا ما تتحول الكتابة إلى رسومات ولكن الرسم أحيانا ما يكون أصدق تعبير عن مئات الكلمات، بحيث أن هذه الرسومات أو الكتابات انتشرت في جدران الشوارع وجدران أقسام المدارس والجامعات وفي كراسي القطارات والحافلات. وغالبا ما تُواكبُ تلك الكتابات الأحداث التي يشهدها الشارع الجزائري مثل حمى كرة القدم وتأهل المنتخب الجزائري لكرة القدم إلى نهائيات كأس العالم أو إفريقيا لكرة القدم، مما دفع إلى انتشار كتابات مثل “وان تو ثري فيفا لالجيري” والتي تعني باللغة العربية (واحد .. اثنان .. ثلاثة .. تحيا الجزائر) وهي تواكب حدثا يهتم به الملايين من الشباب الجزائري، كما انتشرت بالضرورة عبارة “معاك يالخضرا” أي “معك يا منتخب الجزائر” الذي يرتدي الزى الأخضر في منافسات كرة القدم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى