
رغم أن الطفولة مرحلة صعبة من حيث التكفل الصحي، العائلي والتربوي، إلا أن الشابة “عزة شقرون” من تونس، والتي لم تتجاوز 24 سنة من العمر، فضلت أن تختار مصاحبة هذه الفئة الحساسة من المجتمع لمتابعتها نفسيا ومساعدتها على التأقلم والاندماج في الحياة اليومية، عبر تخصصها في الطب النفسي وبالتحديد “الأرطوفونيا”، نظرا للمعاناة الكبيرة للعائلات مع أطفالهم بخصوص الأعراض السلوكية التي تصاحبهم منذ صغرهم، سواء تأخر النطق، طيف التوحد، صعوبة الكلام، الحركة المفرطة، عدم التركيز وعدم الانتباه…، خاصة بعدما أصبح المعلم من يوجه العائلة، لدى اكتشافه لتغيرات على سلوكيات الطفل داخل القسم مقارنة بزملائه، وذلك لعدم تفطن العائلة لابنها في بداياته.
ولمعرفة مدى أهمية ودور طبيب الأرطوفونيا في متابعة الأطفال الذين يعانون من هذه الأعراض الصحية، كان لجريدة “البديـل” هذا الحوار مع الأخصائية النفسانية”عزة شقرون”:
أهلا، ممكن تعريف مبسط عنكم؟
مرحبا، اسمي “عزة شقرون”، عمري 24 سنة، أنا أصغر فرد في العائلة وتخرجت سنة 2022 أخصائية التقويم نطق الكلام، من المدرسة العليا العلوم تقنية الصحة في تونس.
هل اختيار التخصص كان شخصيا، أم التوجيه يتم حسب المعدل الدراسي؟
كان الاختيار حسب المعدل الدراسي أولا، ولكنه كان اختيار شخصي أيضا، حيث كانت لي معرفة سابقة بهذا التخصص بفضل صديقتي المفضلة التي تمارسه منذ سنة 2012.
اخترت تخصصا يعتبر دقيقا، هلّا شرحت لنا أكثر التفاصيل عنه؟
الأرطوفونيا هي اختصاص شبه طبي، يُعنى بتشخيص وعلاج اضطرابات النطق، اللغة، الصوت، التواصل والبلع، ويستهدف مختلف الفئات العمرية من الأطفال إلى الكهول، سواء كانت هذه الاضطرابات ناتجة عن تأخر في النمو، إصابات عصبية، أمراض مكتسبة، أو عوامل نفسية.
يعمل الأخصائي في الأرطوفونيا على تقييم القدرات التواصلية واللغوية للمريض ووضع خطة علاجية فردية تهدف إلى تحسين الوظائف المتأثرة وتطوير مهارات التعبير والفهم الشفوي والكتابي، بالإضافة إلى تأهيل الصوت والبلع في حالات محددة.
هل فتحت عيادتك الخاصة مباشرة بعد انتهائك من الدراسة أم كانت لديك تجارب مهنية سابقة؟
كانت لدي تجربة مهنية سابقة، حيث عملت بمدرسة خاصة بالأطفال الذين يحملون صعوبة التعلم وعملت بها مدة سنة، حيث كنت ضمن فريق بحث علمي. وعملت لمدة سنة ونصف بعيادة خاصة، حيث تعرضت لمختلف الفئات العمرية من أطفال يعانون من الاضطرابات التي تخص النطق والكلام وأيضا البلع عند حالات الاضطرابات العصبية.
ما هي أسباب هذه المشاكل الصحية؟
في السنوات الأخيرة، أصبحت شكاوى العائلات حول تأخر النطق، ضعف التركيز، فرط الحركة، ونقص الإدراك العقلي لدى الأطفال شائعة جدا، ما يدفع العديد من المختصين إلى دق ناقوس الخطر بشأن الأسباب والآثار المترتبة عن هذه الظواهر.
وتتعدد أسباب هذه المشاكل، حيث تلعب العوامل البيولوجية دوراً أساسياً، مثل الولادة المبكرة، نقص الأوكسجين عند الولادة، التاريخ العائلي لاضطرابات النمو العصبي، أو وجود إصابات دماغية مكتسبة. كما أن العوامل البيئية والسلوكية تُعتبر اليوم من أبرز المؤثرات، إذ يُلاحظ تراجع التفاعل اللفظي بين الطفل ومحيطه نتيجة انشغال الأهل أو الاعتماد المفرط على الأجهزة الإلكترونية، وهو ما يحرم الطفل من المحفزات اللغوية والاجتماعية الضرورية لنموه الطبيعي.
إلى جانب ذلك، تؤثر التغذية غير المتوازنة والافتقار إلى النشاط البدني على الوظائف العصبية والمعرفية، بينما تُظهر الأبحاث دوراً كبيراً للاضطرابات النفسية المبكرة، مثل القلق أو غياب الأمان العاطفي، في تعطيل النمو اللغوي والمعرفي. كذلك، فإن اضطرابات مثل طيف التوحد، اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، أو اضطرابات المعالجة الحسية، تزداد نسب تشخيصها، ليس فقط بسبب تزايد عدد الحالات، بل أيضاً بفعل تحسّن وسائل التقييم والكشف المبكر.
إن تراكم هذه العوامل يؤدي إلى عرقلة تطور الدماغ في مراحله الحساسة، خاصة بين الولادة وسن الخامسة، وهي فترة حاسمة لتكوين اللغة، الإدراك، والتركيز. لهذا، فإنّ التشخيص المبكر والتدخل العلاجي المتخصص (كالعلاج بالأرتفونيا، العلاج السلوكي والدعم النفسي) أصبح ضروريا لمساعدة الطفل على تجاوز هذه الصعوبات، وتوفير بيئة داعمة ومحفّزة لنموه الطبيعي.
البعض يرجع تلك الاضطرابات إلى ادمان الطفل للتلفاز، هل هذا صحيح؟
يرجع الكثير من المختصين وأولياء الأمور تأخر النطق وضعف التركيز وفرط الحركة عند الأطفال إلى الإدمان المبكر على التلفاز والأجهزة الذكية، وهو اعتقاد فيه جانب كبير من الصحة، إذ أظهرت الدراسات أن التعرض المطوّل والمبكر للشاشات، خاصة قبل سن الثلاث سنوات، يؤثر سلبًا على تطور الدماغ، ويقلل من فرص الطفل في التفاعل الحقيقي مع محيطه، مما ينعكس مباشرة على قدراته اللغوية والاجتماعية والانتباهية.
فعندما يقضي الطفل ساعات طويلة أمام شاشة تقدم محتوى سريعًا، مليئًا بالألوان والحركة، يتعوّد دماغه على نمط تحفيز غير طبيعي، فيصبح غير قادر على التركيز في مواقف الحياة اليومية التي تتطلب بطئًا، تواصلاً حقيقياً، وانتباهاً مستمرًا. كما أن الجلوس المطوّل أمام الشاشات يعوّض التفاعل مع الوالدين ويمنع الطفل من تعلم اللغة من خلال التقليد والحوار، وهو ما يؤدي إلى تأخر ملحوظ في الكلام والتواصل.
ومع أن التلفاز لا يسبب التوحد بحد ذاته، إلا أن الإدمان عليه قد يؤدي إلى ظهور أعراض شبيهة بطيف التوحد، مثل قلة التواصل البصري والانغلاق الاجتماعي، وهو ما يُعرف بالتوحد الظاهري المرتبط بالشاشات، وهي حالة قابلة للتراجع إذا تم تقليص استخدام الشاشات والتدخل مبكرًا بطريقة مناسبة. لذلك، من الضروري توعية الأهل بخطورة الاستخدام المفرط للشاشات في الطفولة المبكرة، وتشجيعهم على التفاعل المباشر والمكثّف مع أطفالهم لتحفيز نموهم اللغوي والمعرفي الطبيعي.
هل يمكن اعتبار تلك المشاكل أمراضا مزمنة يصعب علاجها أم اضطرابات تحتاج إلى متابعة؟
لا تُعتبر اضطرابات مثل تأخر النطق، ضعف التركيز، فرط الحركة أو صعوبات التواصل أمراضًا مزمنة بالمعنى الطبي، بل هي اضطرابات وظيفية أو نمائية تظهر خلال مراحل النمو، وتختلف حدّتها وتأثيرها من طفل إلى آخر.
في أغلب الحالات، تكون هذه الاضطرابات قابلة للتحسن بشكل ملحوظ إذا تم تشخيصها مبكرًا والتكفّل بها من طرف مختصين مثل “الأرطفونيسْت”، الأخصائي النفسي، أو أخصائي التربية المختصة، بالتعاون مع العائلة. غير أن إهمال هذه الصعوبات أو تأخير التدخل يمكن أن يؤدي إلى تعقيد الوضع وجعل الاضطراب أكثر رسوخًا، ما يؤثر على الأداء الدراسي، السلوك الاجتماعي والثقة بالنفس.
أصبح بعض النفسانيين يعتمدون على تقديم العلاج عن بعد، هل هذا الخيار فعالا في العلاج؟
تُعتبر جلسات إعادة التأهيل عن بُعد في مجال علاج النطق (الأرطوفونيا) ذات أهمية كبيرة، خاصة في ظل التحديات التي قد تمنع بعض المرضى من الحضور إلى العيادة بشكل مباشر، مثل البعد الجغرافي، الظروف الصحية، أو ضيق الوقت.
تتيح هذه الجلسات للأخصائي إمكانية متابعة الحالة وتقديم التمارين المناسبة بطريقة تفاعلية وآمنة من خلال الوسائل الرقمية. كما تسمح للأهل أو المحيط العائلي بالمشاركة بشكل مباشر في العملية العلاجية، مما يعزز من فعالية الجلسات ويدعم تعميم المهارات المكتسبة في الحياة اليومية. وقد أثبتت التجربة أن العلاج عن بُعد يمكن أن يكون فعالًا بقدر الجلسات الحضورية، خاصة إذا تم تنظيمه بشكل جيد مع احترام خصوصيات كل حالة، واستخدام أدوات تواصل مناسبة ومحفزة.
حيث نعتمد في عيادتنا على هذه الجلسات عن بعد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، التي سهلت من توفير جلسات العلاج دون عناء التنقل إلى العيادة، مما يسهل على عائلة المريض التواصل مع الطبيب المعالج، كما أنها تتيح الفرصة لكافة أفراد الأسرة حضور جلسة العلاج من أجل تلقي الإرشادات والنصائح الضرورية في كيفية التعامل مع المريض.
ما هو التأهيل المعرفي الذي تعتمدونه في علاجكم؟
إعادة التأهيل المعرفي هي مقاربة علاجية متخصصة تهدف إلى تحسين أو تعويض الوظائف المعرفية التي تأثرت نتيجة لاضطرابات عصبية أو نفسية أو صعوبات تعلمية. تشمل هذه الوظائف: الانتباه، الذاكرة، سرعة المعالجة، التنظيم، التخطيط وحل المشكلات. يتم تنفيذ هذا النوع من العلاج من خلال تمارين وأنشطة موجهة، يتم تصميمها وفقًا لحالة كل فرد، وقد تكون ورقية، رقمية، أو تعتمد على مواقف من الحياة اليومية. يُشرف على هذه العملية مختصون مؤهلون مثل أخصائيي العلاج النفسي أو أخصائي النطق المدرّبين على برامج الترميم المعرفي.
تُستخدم إعادة التأهيل المعرفي بشكل واسع مع فئات مختلفة، مثل الأطفال الذين يعانون من اضطرابات في التعلم أو الانتباه (مثل اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه ADHD)، والبالغين الذين تعرضوا لإصابات دماغية أو سكتات دماغية، وكذلك المرضى النفسيين الذين يعانون من اضطرابات مثل الفصام أو الاكتئاب، وكبار السن الذين يظهرون علامات تراجع معرفي أو بداية أمراض مثل الزهايمر.
يذكر أن الهدف الأساسي من هذا العلاج لا يقتصر على تحسين الأداء داخل الجلسات فقط، بل يتعداه إلى تحقيق تحسّن ملموس في الحياة اليومية للفرد. فهو يساعد الأشخاص على استعادة قدراتهم على التركيز، اتخاذ القرارات، تنظيم الوقت، والاندماج بشكل أفضل في محيطهم الاجتماعي والمهني. كما أن إعادة التأهيل المعرفي تعتمد على مبدأ “المرونة العصبية”، أي قدرة الدماغ على التكيّف وإعادة تنظيم نفسه، ما يفتح آفاقًا كبيرة لتحسين جودة حياة المرضى وتمكينهم من استعادة استقلاليتهم.
أعدته: ميمي قلان