تكنولوجيا

الصور الرقمية المضللة.. الدنمارك تبدأ معركة تشريعية

في خطوة تشريعية بارزة تحمل أبعادا أخلاقية وتقنية. تتحرك الدنمارك نحو وضع حد قانوني لاستخدام الصور الرقمية المضللة المنتَجة بواسطة تقنيات التزييف الرقمي المتقدم. وهي تقنيات باتت تهدد الحقيقة البصرية وتزعزع ثقة الأفراد فيما يرونه ويشاهدونه.


 

وقد جاء هذا التوجه في ظل تصاعد القلق من التأثيرات السلبية لهذه الصور على الرأي العام وعلى حماية الخصوصية والهوية الشخصية. حيث تسعى الحكومة إلى استصدار قانون يجرّم تداول هذا النوع من المحتوى. خاصة عندما يتعلق الأمر بتقليد السمات الجسدية أو الصوتية للأفراد دون إذن منهم.

ويأتي هذا القرار بعد توافق سياسي واسع في البرلمان الدنماركي. حيث أجمعت أغلب الأحزاب على أن الاستجابة الفعلية لهذا التحدي لم تعد خيارا، بل ضرورة لحماية المجتمع من موجة التضليل الرقمي المتنامي . وتؤكد الحكومة أن هذه الخطوة هي من أوسع المبادرات التي اتخذتها لمواجهة هذا النوع من الخطر التقني. حيث ينتَج المحتوى بوسائل متقدمة تجعل من الصعب على الإنسان العادي التفرقة بين الحقيقة والخداع . خاصة إذا تم نشر هذه المواد في سياقات سياسية أو اجتماعية حساسة.

 

الصور الرقمية المضللة.. تهديد صامت للوعي الجمعي

لا يقتصر خطر المحتوى الرقمي المزيَّف على تشويه السمعة أو العبث بالصورة العامة للشخصيات المعروفة. بل يتجاوز ذلك ليحدث شرخًا عميقًا في إدراك الناس للواقع، إذ تنتَج هذه الصور والمقاطع على نحو يقارب الحقيقة بشكل مذهل. فيظَن أنها توثق لحظة واقعية أو تنقل سلوكًا حقيقيًا. لكنها في الحقيقة لا تحمل من الواقع شيئًا سوى القالب، وهذا ما يجعلها تؤثّر في الذاكرة الجمعية للأفراد وتزرع الشك في كل ما يرى أو يسمع.

وقد ظهر هذا التأثير جليًا في عدد من الحالات التي استخدمت فيها هذه التقنية لتلفيق صور ومقاطع لفنانين وشخصيات عامة من بينهم شخصيات دينية مرموقة. ما تسبب في موجات واسعة من الجدل والارتباك. ويكمن الخطر الأكبر، في أن هذه الصور لا تمحى من ذاكرة الناس بسهولة، بل تبقى حاضرة في اللاوعي. فتشكك في الأحداث الحقيقية وتغذي نظرية المؤامرة. وهو ما يجعل التزييف البصري أداة خطرة في يد من يسعى لإرباك المجتمعات أو التأثير على قراراتها المصيرية.

 

بين حرية التعبير وحماية الكرامة

تثير مبادرة الدنمارك تساؤلات جوهرية حول الحدود الفاصلة بين حرية التعبير وحماية الكرامة الإنسانية. فبينما يعتبر البعض أن هذه الصور تندرج ضمن مساحة الإبداع أو النقد الساخر. يرى أخرون أنها اختراق خطير لحق الإنسان في التحكم في صورته وصوته. فالجسد لم يعد ملكًا لصاحبه إذا أمكن تزييفه رقميًا ونشره في سياقات لا علاقة له بها. كما أن الصوت لم يعد حجة على صاحبه إذا أصبح بالإمكان تقليده في تسجيلات مفبركة. ولهذا تسعى الحكومة الدنماركية إلى تأطير هذه القضايا ضمن منظومة قانونية تحترم الحريات لكنها لا تفرّط في الكرامة.

وقد سلكت دول أخرى مسارات متقاربة، إذ أطلقت كوريا الجنوبية حملة قانونية مشددة لمنع استخدام هذه التقنية في إنتاج محتوى غير لائق. وشدّدت على مواقع التواصل أن تراقب هذا النوع من التلاعب. في حين لجأت الولايات المتحدة إلى إصدار تشريع خاص لحماية الجمهور من التزييف الرقمي، وهو ما يدل على وعي عالمي متزايد بخطورة هذه الممارسات، وتأثيرها على السلم الاجتماعي والنفسي للمجتمعات.

وفي هذا السياق، تؤكد المبادرة الدنماركية أن الهدف الأساسي ليس تقييد الحريات. بل تحصين الواقع من العبث الرقمي. خصوصًا أن هذه الصور والمقاطع لا تقدَّم دومًا على أنها خيالية أو فنية، بل تستخدم أحيانًا في حملات تضليل مقصودة. ولهذا فإن القانون المرتقب لا يكتفي بالمنع، بل يحاول أيضًا أن يرسي مبدأ حماية الجسد والصوت كجزء من الحق الشخصي غير القابل للتصرف. وهو ما يعد تحولًا فلسفيًا في نظرتنا إلى الهوية في العصر الرقمي.

ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى