
كانت ولادة الشخصية الافتراضية في بداياتها مقترنة بعالم ألعاب الفيديو، حيث صُممت هذه الشخصيات لتكون أدوات يتفاعل معها اللاعبون داخل بيئات خيالية، مثل المحاربين، السحرة والمستكشفين.
لم يكن الهدف منها في البداية سوى التسلية وتقديم تجربة لعب مشوقة، ومع تقدم الرسوميات وتطور تقنيات البرمجة، بدأت هذه الشخصيات تكتسب ملامح إنسانية أكثر، من خلال الأصوات وتعبيرات الوجه، وسلوكيات الحركة.
في التسعينيات، بدأت بعض الشركات تطور شخصيات مرتبطة بقصص وأحداث معقدة، مما خلق نوعا من العلاقة العاطفية بين اللاعب والشخصية. إلا أن تلك العلاقة بقيت محصورة داخل الإطار الترفيهي، ولم تتعدَّ كونها مجرد تجربة رقمية تنتهي بخروج اللاعب من اللعبة.
التحول إلى منصات التواصل
مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، شهدنا تحولًا مهمًا في مسار تطور هذه الشخصيات. فلم تعد حبيسة بيئات الألعاب، بل بدأت تظهر ككيانات مستقلة على منصات التواصل الاجتماعي.
تمثّل ذلك في بروز شخصيات افتراضية تمتلك حسابات خاصة بها على منصات العرض والمشاركة، حيث تنشر صورها، وتعلق على الأحداث، وتتفاعل مع المتابعين وكأنها شخصيات حقيقية.
هذا التحول لم يكن عشوائيًا، بل جاء نتيجة توافر أدوات التصميم ثلاثي الأبعاد والذكاء الاصطناعي، التي مكّنت المصممين من ابتكار شخصيات تملك مظهرًا واقعيًا، وسلوكًا قابلاً للتخصيص، وحتى لغة قريبة من البشر.
وبذلك، أصبح من الممكن أن تبنى شخصية كاملة لا تنتمي إلى أي كائن حي، لكنها تتمتع بمتابعة وتأثير حقيقيين.
شخصيات مؤثرة في مجتمعات رقمية
- من أبرز الأمثلة على هذه الظاهرة، شخصيات افتراضية اكتسبت ملايين المتابعين عبر الإنترنت، بل ووقعت عقود شراكة مع علامات تجارية كبرى. كما ظهرت في حملات إعلانية، وشاركت في عروض أزياء افتراضية. هذه الشخصيات أصبحت نجمات في عالم رقمي موازٍ، يتم فيه التفاعل معها كما لو كانت بشرًا حقيقيين، سواء عبر التعليقات، أو رسائل الإعجاب، أو حتى المقابلات الصحفية المصورة بتقنيات الواقع المعزز.
المؤثر الرقمي الافتراضي لم يعد مجرد فكرة تكنولوجية، بل أصبح وسيلة تسويق فعالة، وأداة لنشر القيم، أو حتى لتوجيه الرأي العام أحيانًا. بعض هذه الشخصيات الافتراضية يعبر عن قضايا بيئية، أو يدافع عن حقوق الإنسان، أو يشجع على التعلُّم، مما يمنحها دورًا اجتماعيًا جديدًا يتجاوز الإبهار البصري إلى التأثير السلوكي والثقافي.
لماذا ننجذب إليها؟
السؤال الجوهري هنا: لماذا يقبل الناس، خصوصًا فئة الشباب، على متابعة شخصيات يعلمون مسبقًا أنها غير حقيقية؟ يمكن تفسير ذلك بعدة عوامل نفسية واجتماعية.
- أولًا، توفر هذه الشخصيات مساحة من الخيال الآمن، فهي ليست بشرًا معرضين للفضائح أو التقلبات. وهذا يخلق نوعًا من الثقة الثابتة في تفاعل الجمهور معها.
- ثانيًا، كثير من هذه الشخصيات مصممة لتكون مثالية من حيث الشكل، والذكاء، وسلوك التفاعل، وهو ما قد يشبع لدى المتلقي رغبة في “النموذج الكامل” الذي لا يخيب التوقعات. كما أن طبيعة التفاعل الرقمي تسمح بمسافة عاطفية مريحة، تجعل المتابع يشعر بالألفة دون التورط في علاقات حقيقية معقدة.
- ثالثًا، ترتبط هذه الشخصيات عادة بتجارب ترفيهية مبهرة، أو مقاطع مصورة مصممة بدقة، ما يمنحها جاذبية بصرية عالية تسهم في تعزيز تعلق المتابعين بها، تمامًا كما يحدث مع نجوم السينما.
أبعاد ثقافية واجتماعية
أدى هذا التحول إلى فتح نقاشات واسعة حول طبيعة الهوية، والتأثير الثقافي للعوالم الرقمية. فمع تزايد حضور الشخصيات الافتراضية في المشهد الإعلامي، بدأت تظهر تساؤلات حول علاقتها بالهوية الإنسانية، وهل يمكن أن تمثّل فعلاً مشاعر الناس وأحلامهم؟ هل هي مجرد أدوات تجارية، أم يمكن اعتبارها جزءًا من الثقافة الشعبية الجديدة؟
بعض الباحثين يرون فيها تعبيرًا حديثًا عن “الذات المعاد تشكيلها”، حيث يصنع الإنسان عبر هذه الشخصيات نسخة أخرى منه تعيش وفق طموحاته أو هروبه من الواقع. وهناك من يرى أن هذا الحضور المكثف قد يؤدي إلى تعقيد العلاقات الاجتماعية، والتأثير على معايير التفاعل الإنساني التقليدي.
مستقبل الشخصيات الافتراضية
ما زلنا في بداية الطريق لفهم الآثار العميقة لهذه الظاهرة. لكن من المؤكد أن الشخصيات الافتراضية لن تختفي، بل ستزداد تطورًا وتعقيدًا. فمن المتوقع أن تدمج لاحقًا مع تقنيات الذكاء الاصطناعي التفاعلي، بحيث تصبح قادرة على خوض محادثات طويلة مع المستخدمين، وتقديم محتوى مخصص بناءً على تحليل السلوك.
في المستقبل القريب، قد نرى هذه الشخصيات تدرّس في الفصول الدراسية، أو تقود عروضًا فنية على المسرح، أو تدير مؤتمرات إعلامية. وهذا يطرح تحديات قانونية وأخلاقية جديدة، مثل: من المسؤول عن أقوال أو أفعال شخصية افتراضية؟ ومن يمتلكها؟ وما حدود استخدامها؟
واقع جديد يتشكل
لقد تحولت الشخصية الافتراضية من مجرد خيال رقمي إلى حضور اجتماعي ملموس. وهي تمثل اليوم أحد تجليات العالم الرقمي الذي يعيد تشكيل حدود الواقع والخيال. وبينما يبهرنا ذكاؤها الاصطناعي وجمال تصميمها، تبقى هناك أسئلة مفتوحة حول علاقتنا بها، وحدود هذا الاندماج العاطفي مع كيانات غير بشرية.
إن فهم هذا التحول لا يتطلب فقط متابعة تقنية، بل قراءة ثقافية ونفسية واجتماعية، تكشف عن ملامح عصر رقمي جديد، حيث لا يعود المهم فقط من “يوجد”، بل من “يؤثّر”، ولو كان افتراضيًا.