
لم يعد الخوف من فقدان الوظائف لصالح التقنيات الحديثة مجرد هاجس نظري، بل تحول إلى تجربة مؤلمة عاشها أشخاص أمضوا سنوات طويلة في تطوير مؤسساتهم ليجدوا أنفسهم فجأة خارج أسوارها، في مشهد يعكس التحول الجذري الذي يشهده عالم الوظائف، وجد الموظف كيفن كانتيرا نفسه ضحية لتقنية ساهم هو شخصياً في إدخالها إلى شركته، بعد سبعة عشر عاماً قضاها موظفاً في شركة متخصصة في التقنيات التعليمية في مدينة لاس كروسس بولاية نيو مكسيكو الأمريكية، استيقظ الرجل في يوم ليس مثل الأيام ليكتشف أنه أصبح خارج نطاق العمل، مستبدلاً بنموذج لغوي ذكي.
بدأت قصة كانتيرا التي نشرتها صحيفة واشنطن بوست عندما شجع المدير فريق العمل على استخدام برامج المحادثة الذكية لتعزيز مستويات الإنتاجية، استجاب الرجل بحماسة واضحة، وبدأ في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي كمساعد فعلي في مهام الكتابة والبحث، يقول الموظف السابق: “كانت أداة مدهشة بالنسبة لي كشخص يعمل في مجال الكتابة، كنت أعتبر هذا النموذج اللغوي زميلاً حقيقياً في العمل، كانت إنتاجيتي تتجاوز كل التوقعات”، لكن هذه الشراكة الواعدة لم تدم طويلاً، حيث سرعان ما تبين أن هذا الزميل الرقمي كان في الواقع شريكاً خفياً للإدارة، حيث تم الاستغناء عن كانتيرا ومجموعة من زملائه بعد تأكيدات متكررة بأن الذكاء الاصطناعي لن يشكل تهديداً لوظائفهم.
الإنتاجية الوهمية وحدود الاعتماد على الآلة
ما حدث لكانتيرا ليس حالة منعزلة، فقد سارعت عدد من الشركات حول العالم إلى استبدال موظفيها بوكلاء الذكاء الاصطناعي، أو قامت بتقليص أعداد العاملين وأجبرت من تبقى على سد الفجوة من خلال الاعتماد على الأدوات التوليدية. لكن النتائج العملية لهذه الموجة التكنولوجية لم تكن دائماً كما هو متوقع، حيث اضطرت العديد من الشركات إلى إعادة توظيف العاملين البشريين بعد أن أصبح واضحاً أن الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي أدى إلى تراجع ملحوظ في جودة المخرجات.
كشفت دراسة أجراها معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن الذكاء الاصطناعي لا يضمن تحقيق مضاعفة الأرباح كما يتم الترويج، حيث أظهرت أن خمسة وتسعين بالمئة من الشركات التي دمجت هذه التقنيات في عملياتها لم تشهد أي نمو ملموس في الإيرادات. كما كشفت أبحاث أخرى أن الذكاء الاصطناعي ساهم في خلق بيئات عمل مشوشة وغير فعالة، يتبادل فيها الموظفون مخرجات ذات جودة متدنية صادرة عن الأنظمة الذكية، مما يضع على عاتق زملائهم عبء تصحيحها وإعادة إنتاجها بالشكل المناسب.
ويتساءل كانتيرا اليوم عن مصير الشركة التي كان يعمل بها قائلاً: “أخشى أنهم يعتمدون الآن على المخرجات الآلية دون أي مراجعة من خبراء حقيقيين، وهذا أمر مخيف حقاً”،هذه التخوفات تعكس الفجوة الواسعة بين التوقعات النظرية للتكنولوجيا وتطبيقاتها العملية على أرض الواقع.
وظائف في مرمى النيران التقنية
قدّر تقرير صادرعن منظمة التجارة والتنمية المعروفة باسم الأونكتاد أن الذكاء الاصطناعي قد يؤثر على أربعين بالمئة من الوظائف حول العالم، مؤكداً أن هذا التأثير قد يتخذ أشكالاً متعددة: من الاستبدال الكامل للقوى العاملة البشرية، إلى التكامل أو التوسع في عمليات الأتمتة، أو حتى خلق وظائف جديدة في مجالات البحث والتطوير.
وتتوالى تحذيرات المؤسسات البحثية العالمية، حيث أبرزت دراسة أجرتها شركة مايكروسوفت أن الذكاء الاصطناعي يشكل تهديداً مباشراً لفئات واسعة من الوظائف المكتبية، في حين تبدو المهن اليدوية منخفضة الأجور أقل تأثراً بهذا التحول،وأشار الباحثون إلى أن المهن الأكثر عرضة للأتمتة تشمل: المترجمين، المؤرخين، الكتاب، مندوبي المبيعات، وممثلي خدمة العملاء.
وفي السياق نفسه، كشفت دراسة مشتركة بين منظمة العمل الدولية والمعهد الوطني للبحوث الرقمية في بولندا أن الوظائف التي تشغلها النساء، خاصة في الدول ذات الدخل المرتفع، أكثر عرضة للاستبدال مقارنة بتلك التي يشغلها الرجال. مع التأكيد أن هذه النتائج تمثل تقديرات محتملة وليست خسائر فعلية مؤكدة حتى اللحظة،هذه المعطيات تفتح الباب أمام حوار جاد حول مستقبل العمل والإنسان في ظل الثورة التقنية المتسارعة.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله