تكنولوجيا

الرؤساء التنفيذيون يستبدلون أنفسهم بنسخ رقمية

عصر القيادة الاصطناعية يبدأ

بينما كان يُنظر في السابق إلى الذكاء الاصطناعي كأداة مُساعدة في دعم قرارات الإدارة، يبدو أن بعض الرؤساء التنفيذيين باتوا يتعاملون معه كبديل محتمل لأنفسهم.


ففي خطوة أثارت الكثير من الجدل، لجأ عدد من كبار التنفيذيين في شركات التكنولوجيا العالمية إلى استخدام “نسخ افتراضية” من أنفسهم مُدجّجة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي لتقديم تقارير الأرباح، في مشهد غير مسبوق يُعيد طرح تساؤلات محورية حول حدود التقنية ومآلاتها المستقبلية.

عندما يتحدث الشبيه بدل المؤسس

شركة “كلارنا”، المتخصصة في تقديم خدمات الشراء الفوري والدفع المؤجل، كانت في طليعة من اعتمد هذا التوجّه الجديد. فقد قامت بنشر مقطع مصور تظهر فيه “الشخصية الافتراضية” للرئيس التنفيذي والمؤسس المشارك سيباستيان سيمياتكوفسكي، معلنة عن نتائج الربع الأول من العام 2025. الفيديو الذي لم يتجاوز دقيقة ونصف، بدأ بعبارة لافتة: “أنا، أو بالأحرى، شخصيتي الافتراضية”، واضعًا المشاهد في مواجهة مباشرة مع الحدود الضبابية بين الحقيقي والرقمي.

هذه الخطوة لم تكن استعراضية فحسب، بل جاءت ضمن سياسة استراتيجية اتبعتها الشركة لتعزيز الاعتماد على الذكاء الاصطناعي، إلى درجة تقليص عدد الموظفين البشر نتيجة هذه الاستثمارات. إذ يرى سيمياتكوفسكي أن التحول الرقمي العميق بات يُغني، في كثير من الأحيان، عن القوى العاملة التقليدية، وربما أيضًا عن الوجود القيادي المباشر في بعض المناسبات.

زووم تلحق بالركب

لم تكن كلارنا الوحيدة في هذا المسار؛ فقد أعلن الرئيس التنفيذي لشركة “زووم”، إريك يوان، عن استخدامه لصورة رمزية ذكية خلال مكالمة الأرباح للربع الأول من سنة 2026. وأوضح أنه لجأ إلى هذه النسخة الافتراضية المصممة لتقديم بيان النتائج، فيما احتفظ لنفسه بالحضور الفعلي لفقرة الأسئلة والأجوبة.

وأشار يوان إلى إعجابه الكبير بتجربة استخدام “شخصيته الاصطناعية”، معبرًا عن رغبته في مواصلة هذا النهج في المستقبل، بل وذهب أبعد من ذلك بقوله: “أفخر بأن أكون من أوائل الرؤساء التنفيذيين الذين استخدموا شخصية رمزية لتمثيلي”، ملوحًا بإمكانية اعتماد “توأم رقمي” لحضور الاجتماعات بدلاً عنه.

هذا التوجه لا يبدو مجرد استخدام تقني عابر، بل يُمثّل تحولا جذرياً في فلسفة القيادة الحديثة. فقد انتقل بعض الرؤساء التنفيذيين من اعتبار التكنولوجيا وسيلة للرفع من كفاءة الأداء، إلى جعلها واجهة للتمثيل الرسمي حتى في أهم المناسبات المالية. ومع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في إعداد وتحليل التقارير، ربما لن يطول الأمر حتى تُصبح الشخصيات الرقمية قادرة على التفاوض، اتخاذ القرارات، وربما حتى إصدار التعليمات للإدارات الأخرى.

ما يُثير القلق هنا، ليس فقط تسارع هذا التحول، بل أيضًا قابليته للتطبيع. فمع كل ظهور علني لشخصية افتراضية بدل المدير الحقيقي، تضعف تلقائيًا قيمة الوجود الإنساني في مواقع القيادة، وتُفتح الأبواب أمام تحولات قد تعيد رسم مفهوم “السلطة” و”المسؤولية” في مؤسسات الأعمال.

انعكاسات أخلاقية وإدارية

من البديهي أن تظهر أصوات ناقدة لهذا التوجه، ليس فقط من زاوية المحافظة على الطابع الإنساني للإدارة، بل أيضًا من منظور الشفافية والمساءلة. فإذا ما أصبحت هذه “النسخ الذكية” تمثل وجه الشركة في اللقاءات العامة، فمن يضمن مصداقية ما يُقال؟ ومن يتحمل المسؤولية إذا حدث خلل في المعلومات أو سُجّل تضليل متعمد؟

الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب منظومة تشريعية متكاملة تواكب التغير التقني، وتضع معايير واضحة لاستخدام الشخصيات الافتراضية في مواقع حساسة. فمن غير المعقول أن يُستبدل الإنسان بشبيه رقمي دون وجود ضمانات قانونية وأخلاقية تضبط هذا الاستبدال.

يرى بعض المحللين أن استخدام القادة لنسخهم الرقمية لا يخلو من رغبة في تقليل الأعباء، أو حتى التهرب من المواجهة المباشرة، خصوصًا في حالات التقارير المالية التي قد تحمل أنباء غير مرضية للمستثمرين. فالاختباء خلف “واجهة اصطناعية” يُمكّن المدير من التحكم بالرسائل التي تُبث، دون أن يُخضع نفسه لنبرة صوته أو انفعالات وجهه أو حتى ضغط الموقف.

غير أن هذه “الراحة التكنولوجية” قد تأتي على حساب الثقة المتبادلة بين القيادة والعامة. فالجمهور بطبعه يميل إلى التفاعل مع البشر، لا مع صور محوسبة تُكرر خطابًا مبرمجًا قد يفتقر إلى العاطفة والمرونة.

ما نشهده اليوم ليس مجرد توجه تجريبي، بل منعطف جوهري قد يُغيّر علاقة الإنسان بالتقنية داخل أروقة القرار. وإذا كانت هذه الخطوة تُعبّر عن جرأة في استخدام الذكاء الاصطناعي، فإنها قد تُعطي في المقابل انطباعًا عن تزايد الغرور التقني لدى بعض القيادات، بحيث باتوا يرون أنفسهم قابلة للاستنساخ رقميًا.

إن المسألة أكبر من مجرد فيديو ذكي أو شخصية رمزية جذابة، بل تتعلق بسؤال جوهري: من يقود فعلاً؟ هل هو الإنسان الذي تبلورت رؤيته عبر التجارب والعواطف، أم مجرد نموذج رقمي يُجيد تكرار العبارات ويغيب عنه الحس البشري؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى