
بينما تنشغل الشركات التقنية العملاقة بتطوير نماذجها في مجال الذكاء الاصطناعي، وتنافسها المحموم في ميادين البحوث والعروض والابتكارات، تبرز تجربة مدهشة وغير متوقعة تكشف جانبًا آخر من قدرات هذه النماذج.
ففي سياق ترفيهي وتحليلي في آن، تمّ إخضاع بعض النماذج الذكية لاختبار مثير للدهشة، تمثل في لعب ألعاب الطفولة التقليدية، وتحديدًا لعبة الوحوش الرقمية المعروفة، لتتجلى من خلال هذه التجربة سلوكيات تُشبه التفاعل البشري، وتطرح أسئلة عميقة حول مستقبل الذكاء الاصطناعي في المواقف غير المألوفة.
اختبار الخوارزميات بالخسارة والذعر
خضعت النسخة المتطورة من النموذج المسمى “جيميني 2.5 برو” لاختبار في لعبة الفيديو الكلاسيكية، حيث راقب المطورون كيف يتعامل النموذج مع التحديات التي يواجهها الطفل العادي داخل عالم افتراضي تمتلئ أركانه بالوحوش والمفاجآت، وخلال هذا السياق، أظهرت البيانات أن النموذج يميل إلى التصرف وكأنه “يذعر” عند اقتراب هزيمة الوحوش التي يتحكم بها، الأمر الذي يؤدي إلى تراجع في أدائه العام، إذ يتوقف أحيانًا عن استخدام أدوات تساعده على الصمود أو يفشل في اتخاذ قرارات منطقية، وهي حالة شبّهها المطورون بتدهور القدرة على التفكير تحت الضغط.
ورغم أن الذكاء الاصطناعي لا يملك شعورًا حقيقيًا بالخوف أو القلق، إلا أن هذه السلوكيات تعكس قدرة النماذج على محاكاة حالات نفسية بشرية بدرجة مفاجئة، ويُفسر هذا التفاعل كونه نتيجة طبيعية لبرمجيات التعلم الذاتي، التي تستند في تحليلاتها إلى التجربة التراكمية، لكنها، في ظل المواقف غير المتوقعة، تُظهر ارتباكًا يشبه الارتباك البشري.
أخطاء ذكية في عالم افتراضي
لم يقتصر التقييم على نموذج واحد، بل شمل كذلك نموذجًا آخر يُعرف باسم “كلود“، حيث تم تتبع أدائه في نفس اللعبة، وسجل سلوكيات فريدة تؤكد أن فهم الذكاء الاصطناعي للمنطق داخل الألعاب ليس دائمًا دقيقًا، ففي إحدى الحالات، ظنّ النموذج أن فقدان جميع وحوشه في أحد الكهوف سيؤدي به إلى الانتقال تلقائيًا إلى مركز التماثل التالي، غير أن اللعبة تعيد اللاعب إلى آخر نقطة حفظ استخدمها، ما جعله يُخطئ في التخطيط ويقود شخصيته إلى “الهلاك” ظنًا منه أنه يستغل ثغرة للتقدم.
ما أثار دهشة المشاهدين، هو أن هذه الأخطاء بدت كأنها ناجمة عن تفكير منطقي خاطئ، وهو أمر معتاد عند اللاعبين البشر، لكنه في حالة الذكاء الاصطناعي يسلط الضوء على مدى اعتماده على الافتراضات، كما يبرز حدود استيعابه لقواعد السياق عند غياب التوجيه البشري المباشر، وقد تفاعل جمهور المتابعة عبر البث المباشر مع هذه اللحظات، فدوّنوا ملاحظاتهم وشاركوا بردود فعل تقترب من الذهول، خاصة أن تلك الأخطاء لم تكن معزولة، بل تكررت بشكل لافت.
تفوق تكتيكي رغم العثرات
ورغم العثرات التي وُثّقت في أداء النماذج، إلا أن التجربة لم تكن خالية من لحظات التألق، فقد أظهر النموذج المتقدم “جيميني 2.5 برو” قدرة مدهشة على حل بعض الألغاز المعقدة داخل اللعبة، خصوصًا تلك المتعلقة بدفع الصخور داخل المتاهات للوصول إلى أبواب مخفية، حيث تمكّن من إنشاء أدوات تحليلية تفاعلية تساعده على التحقق من المسارات الصحيحة وتنفيذ الحركات الدقيقة، معتمدًا على توصيف حركي تفصيلي للمكونات الفيزيائية داخل اللعبة.
هذا الإنجاز لم يكن ممكنًا لولا التدخل البشري الأولي، الذي زوّده بتوصيف دقيق للقوانين المعتمدة في اللعبة، لكن اللافت أن النموذج استطاع بعد ذلك مواصلة تطوير هذه الأدوات بمفرده، وهو ما دفع المشرفين إلى الاعتقاد بأن هذا النموذج، أو ما سيأتي بعده، قد يكون قادرًا مستقبلاً على فهم السياقات المعقدة دون الحاجة إلى كثير من المساعدة الخارجية.
الاختبار، الذي أُجري بعيدًا عن القاعات الجامعية والمختبرات، كشف أن الذكاء الاصطناعي قادر على مفاجأتنا، ليس فقط في قدرته على الإنجاز، بل في طريقة تعامله مع الفشل، مع التخبط، وحتى مع الاستنتاجات الخاطئة، ما يُعيد طرح السؤال القديم: إلى أي مدى نستطيع القول إن هذه النماذج “تفكر”؟
من الواضح أن تلك النماذج، رغم ما تحققه من تقدم مذهل، لا تزال بحاجة إلى تطوير في ما يتعلق بالفهم السياقي، والمرونة العقلية، ومهارات التكيف في بيئات غير تقليدية، لكن التجربة الأخيرة تفتح الباب أمام طرق جديدة في اختبار الذكاء الاصطناعي، لا تُقاس فيها الكفاءة فقط بنتيجة نهائية، بل تُقرأ من خلال السلوك أثناء الطريق.
في النهاية، قد تكون لعبة قديمة هي المفتاح لفهم مستقبل معقد، وقد يكون الذكاء الاصطناعي في لعبه أكثر صدقًا مما نتخيل، إذ يعكس من خلال ارتباكه وتردده، قُدرة فريدة على تقليد البشر، لا عبر الكلام وحده، بل حتى في مغامرات الطفولة
إعداد : ياقوت زهرة القدس بن عبد الله