خاص

الذكاء الاصطناعي والفعل الثقافي…

ندوة علمية تفتح النقاش حول التحول الرقمي للمؤسسات الثقافية

 في زمن تتقاطع فيه التكنولوجيا مع الثقافة، وتتشابك فيه الخوارزميات مع الحس الجمالي، احتضنت دار الثقافة “محمد اسياخم” بولاية غليزان ندوة علمية فكرية، موسومة بـ: “تأثير الذكاء الاصطناعي على الفعل الثقافي لدى دور الثقافة”، بمشاركة نخبة من الأساتذة والباحثين المتخصصين في مجالات الذكاء الاصطناعي، الإعلام، التنظيم الثقافيوالسياسات العمومية، وسط حضور معتبر لمثقفين وفاعلين من المجتمع المدني.

 

الندوة، التي نظّمت في إطار البرنامج العلمي والفكري للموسم الثقافي الجديد، شكّلت فضاءً للحوار المفتوح حول طبيعة التحولات الرقمية العميقة التي يشهدها العالم، وانعكاساتها المباشرة على العمل الثقافي بمختلف أشكاله، خاصة داخل المؤسسات الثقافية التي أصبحت مدعوة اليوم لمواكبة التغيرات التكنولوجية المتسارعة، وتكييف أدوارها وهيكلتها لتستمر في أداء وظائفها الأساسية: التثقيف، التنشئة، الإبداع، والحفاظ على الهوية.

 

“بن تواتي الطيب” (مدير دار الثقافة): التكنولوجيا فرصة لا تهديد

افتُتحت أشغال الندوة بكلمة ترحيبية لمدير الثقافة لولاية غليزان، السيد ‘بن تواتي الطيب’، الذي أكد أن هذه المبادرة الفكرية تأتي في وقت حاسم يفرض على المؤسسات الثقافية مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي لا من منطلق التخوّف، بل باعتباره فرصة سانحة لإعادة هيكلة العمل الثقافي وتعزيز فعاليته.

وأوضح المتحدث أن الذكاء الاصطناعي، أصبح جزء من حياة الإنسان اليومية، ولا يمكن للثقافة أن تبقى بمعزل عنه، مشيرا إلى أهمية التفكير الجماعي في كيفية إدماج هذه التقنيات الحديثة ضمن إستراتيجيات العمل الثقافي، سواء على مستوى التسيير، الترويج، أو الإنتاج الإبداعي.

 

“غزالي عبدلي” (رئيس الندوة): هل الذكاء الاصطناعي شريك أم منافس؟

من جهته، ألقى الأستاذ ‘غزالي عبدلي’، بصفته رئيس الجلسة العلمية، مداخلة افتتاحية تحت عنوان: “الذكاء الاصطناعي والفعل الثقافي: تحديات المرحلة ورهانات المستقبل”، عبّر فيها عن سعادته باحتضان دار الثقافة لمثل هذه المبادرات التي تعكس يقظة فكرية وحسًا استباقيًا في التعاطي مع التحولات الرقمية.

وقال عبدلي في كلمته:”لقد أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة عميقة في مختلف القطاعات: الطب، التعليم والاقتصاد، واليوم يتوغّل في مجال الثقافة، حيث أصبحنا نرى روبوتات تُنشد الشعر، وآلات تؤلف القصص، بل وحتى منصات رقمية تقدم أعمالاً فنية ومسرحية، ما يفرض علينا كفاعلين في الحقل الثقافي، طرح أسئلة جوهرية: هل نحن أمام شريك جديد أم منافس حقيقي؟”،كما أشار إلى أن دور الثقافة هو الفضاء الأمثل لاستيعاب هذا التحول، شريطة إعادة النظر في الهيكلة التنظيمية والقوانين المؤطرة لهذه المؤسسات، وخلق جسور حقيقية بين التكنولوجيات الحديثة والرسالة الثقافية النبيلة.

 

أربع محاور رئيسية لإعادة التفكير في الثقافة الرقمية

وقد توزعت أشغال الندوة على 4 مداخلات رئيسية، عالجت كل واحدة منها زاوية معينة من العلاقة المركبة بين الذكاء الاصطناعي والعمل الثقافي.

 

الذكاء الاصطناعي والإبداع الفني والأدبي

في مداخلة بعنوان: “نثير الذكاء الاصطناعي للحركة الأدبية والفنية بدور الثقافة”، اعتبر الأستاذ ‘أحمد عبد الصادوق’ أن الذكاء الاصطناعي أضحى محفزًا للأفكار ومصدرًا للإلهام، دون أن يعني ذلك بأي حال إمكانية استبداله بالإبداع البشري الحقيقي. وأضاف:” الذكاء الاصطناعي قادر على المحاكاة، لكنه يفتقر إلى الحس، والعاطفة، والعمق الثقافي الذي يشكّل جوهر الإبداع الإنساني. هو أداة، وليس بديلاً، بل ينبغي أن يُستخدم لدعم وتطوير مهارات المبدعين، لا لإزاحتهم.”

 

“بصيلة نجيب” (جامعة سعيدة): “الإعلام الثقافي والرقمنة”

أما الدكتور ‘بصيلة نجيب’، من جامعة سعيدة، فقدّم مداخلة موسومة بـ: “الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي للترويج للفعل الثقافي”، تطرّق فيها إلى التحولات التي مستّ الإعلام الثقافي، ودور الذكاء الاصطناعي في تعزيز الوصول إلى الجمهور عبر الخوارزميات والمنصات الذكية.

وحذّر الدكتور “بصيلة” من بعض الممارسات “التحايلية”، التي قد تُمكّن أفرادًا من تسلق المناصب عبر أدوات الذكاء الاصطناعي دون كفاءة حقيقية، ما يستوجب رقابة أخلاقية ومهنية صارمة لضمان توظيف عادل ومتزن للتكنولوجيا في خدمة الثقافة.

 

“أ.خديم محمد”: “القانون والثقافة في زمن الذكاء الاصطناعي”

بدوره، قدّم الأستاذ ‘خديم محمد’ مداخلة بعنوان: “تأثير الذكاء الاصطناعي في إعادة صياغة القوانين المنظمة لدور الثقافة”، شدد فيها على أن المنظومة القانونية الراهنة لا تواكب التغيرات التقنية، داعيًا إلى ضرورة إدراج مواد قانونية تسمح باستخدام الذكاء الاصطناعي كعنصر فاعل في التسيير الثقافي، مع وضع ضوابط تحد من التوظيف العشوائي.

 

“أ. صالح بخدة”: “الهيكلة التنظيمية للمؤسسات الثقافية

واختتم الأستاذ ‘صالح بخدة’ جلسة المداخلات العلمية بمساهمة حول: “الهيكلة التنظيمية لدور الثقافة وعصر الذكاء الاصطناعي”، أكد فيها أن البنية التنظيمية الحالية لم تعد صالحة لمواجهة تحديات العصر الرقمي، مطالبًا بإعادة تصميم أنظمة التسيير الثقافي على أساس التفاعل والرقمنة والانفتاح على الكفاءات التقنية.

 

توصيات عملية من أجل تحول ثقافي ذكي

وفي ختام الندوة، قرأت الأستاذة ‘بوحلالة مديحة’ جملة من التوصيات التي خلُصت إليها الجلسات العلمية، والتي يمكن تلخيصها في المحاور التالية:تشريعيًا وتنظيميًا، وضرورة مراجعة القوانين المنظمة لعمل دور الثقافة لتسمح بإدماج الذكاء الاصطناعي ضمن آليات التسيير والتخطيط الثقافي.

من حيث البنية التحتية: تجهيز دور الثقافة بتقنيات حديثة وربطها بأنظمة ذكية، مع توفير تكوين مستمر للإطارات الثقافية،على مستوى البرامج والمضامين: إدراج الذكاء الاصطناعي كأداة مرافقة للإبداع، وتشجيع المبادرات الرقمية والمشاريع الفنية المرتبطة به،في مجال الإعلام والاتصال: تطوير منصات رقمية ذكية لدور الثقافة تتيح الترويج التفاعلي للنشاط الثقافي، خاصة لدى فئة الشباب،في مجال الشراكة والانفتاح: تفعيل التعاون بين دور الثقافة والمؤسسات الجامعية والمراكز التكنولوجية لإنشاء مشاريع ثقافية ابتكارية،من حيث المشاركة المجتمعية: إشراك الشباب والمجتمع المدني في تصميم المجال الثقافي الرقمي، من خلال مسابقات، ورشات، وتطبيقات تفاعلية.

كما دعت التوصيات إلى تعميم مخرجات هذه الندوة على كافة الهياكل الثقافية، وبرمجة لقاءات مستقبلية متخصصة تعالج العلاقة بين التكنولوجيا والعمل الثقافي من زوايا متعددة: فنية، قانونية، فلسفية واجتماعية.

 

نحو ثقافة رقمية تشاركية

بهذا، تكون دار الثقافة “محمد اسياخم” قد فتحت نقاشًا عميقًا وضروريًا حول واحدة من أكثر القضايا إلحاحًا في عصرنا: كيف يمكن للثقافة أن تتكيّف مع الذكاء الاصطناعي دون أن تفقد جوهرها الإنساني؟ وهل يمكن للمؤسسات الثقافية أن تتحوّل من فضاءات تقليدية إلى منصات ذكية قادرة على مخاطبة الإنسان الرقمي بلغة الإبداع والابتكار؟

أسئلة مفتوحة تبقى مطروحة، في انتظار تفعيل ما نوقش وتوصّل إليه، وتحويله إلى سياسات ثقافية عملية تتماشى مع روح العصر.

 تغطية:جيلالي.ب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى