
الذكاء الاصطناعي والعزلة الحديثة .. في زمن تتسارع فيه وتيرة الاعتماد على الأنظمة الذكية، بدأت آثار هذه التقنية تتسلل إلى النسيج الاجتماعي للإنسان، حيث لم يعد الذكاء الاصطناعي محصورًا في المهام الحسابية أو الإدارية، بل صار يدخل في صلب العلاقات الإنسانية، وهو ما يطرح أسئلة حرجة حول مصير التفاعل البشري في ظل شراكة رقمية لا تعرف التعب ولا التردد ولا الرفض.
تشير أرقام حديثة إلى أن نسبة غير قليلة من الشباب ترى في الذكاء الاصطناعي بديلًا ممكنًا للعلاقات العاطفية، بل إن عددًا منهم لا يمانع في بناء صداقات افتراضية خالصة، وقد لا يكون ذلك مقلقًا في ظاهره، لكنه يعكس تحولًا جوهريًا في نظرة الإنسان للعلاقات، إذ إن المعيار لم يعد قائمًا على الوجود الحي والتفاعل الحقيقي، بل بات مرهونًا بالسهولة والسرعة وتوفر الرد المناسب في أي وقت.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي في أدوار كانت حكرًا على البشر، كالمساعدة الشخصية، والدعم النفسي، وحتى التوجيه التربوي، بدأت العلاقات الاجتماعية تتأثر بشكل ملحوظ، فبدلًا من التفاعل مع صديق حقيقي أو شريك حياة من لحم ودم، يجد البعض في الأنظمة الذكية بديلًا صامتًا يلبي طلباته دون شروط أو مطالب، وهو ما يُقلص المساحة المخصصة للعلاقات البشرية، ويزرع بذور الانعزال التدريجي داخل الأفراد.
الذكاء الاصطناعي والعزلة الحديثة .. علاقات بلا عمق
تتطلب العلاقات الإنسانية الحقيقية قدرًا من الجهد والمبادرة والتسامح، وهي عملية مستمرة من الأخذ والعطاء، في حين أن التواصل مع الآلة مُصمم ليكون سلسًا وخاليًا من التعقيد، فلا غضب ولا مشاعر معاكسة ولا حاجة لإرضاء الطرف الآخر، فقط استجابة فورية مصممة خصيصًا لتلبية رغبة المستخدم.
هذا النوع من التفاعل المريح جدًا قد يُنتج تصورًا غير واقعي لدى الأفراد، بأن العلاقات ينبغي أن تكون بلا صراع أو جهد، وعندما يواجهون في الواقع خلافًا أو تقصيرًا من طرف بشري، سرعان ما يشعرون بالإحباط أو يفضلون الانسحاب، ما يؤدي إلى تراجع قدرتهم على التحمّل وبناء علاقات طويلة الأمد تقوم على الفهم والتفاهم المتبادل.
وقد حذرت دراسات اجتماعية من أن الاعتياد على هذا النمط من التفاعل يُغذّي سلوكيات العزلة والاعتماد على الذات، فلا حاجة إلى حوار داخلي ولا إلى محاولة فهم وجهة نظر الطرف الآخر، لأن النظام الذكي سيُقدّم دائمًا الإجابة المرضية، وسيُجنّب الإنسان عناء النقاش والتفاوض.
ضمور العاطفة وتراجع التعاطف الإنساني
واحدة من أكثر الآثار قلقًا هي ما يُعرف بضعف القدرة على التعاطف، وهي المهارة التي تُكتسب من خلال التفاعل اليومي مع الآخرين، فالتعاطف ليس مجرد استجابة فكرية، بل هو حالة شعورية تتطلب الحضور الذهني والوجداني في مواقف متعددة، ويصعب تنميتها إن كانت معظم التفاعلات تدور مع كيان لا يملك مشاعر حقيقية ولا يتأثر بكلماتك أو أفعالك.
الأنظمة الذكية، مهما كانت متقدمة، لا تشعر بالغضب أو الخيبة أو الحزن، وبالتالي لا تتيح للمستخدم فرصة اختبار عواقب أفعاله على الطرف الآخر، وهذا ما يقلل تدريجيًا من حساسية الإنسان تجاه الألم أو الانزعاج أو الحزن لدى الآخرين، وقد يؤدي إلى جمود عاطفي يتعمق مع مرور الوقت.
ورغم أن بعض الأجهزة تحاكي العواطف البشرية وتُظهر مظاهر من الحنان أو التفهم، فإن المستخدمين في قرارة أنفسهم يعلمون أن هذه الانفعالات مصطنعة، ومع التكرار، قد يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة بالمشاعر الحقيقية لدى البشر، أو على العكس تمامًا، الاكتفاء بالمشاعر الاصطناعية التي لا تتطلب أي التزام أو مسؤولية.
مستقبل هش للعلاقات الاجتماعية إن لم نتدارك الأمر
ليست المشكلة في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في كيفية استخدامه ودمجه في الحياة اليومية دون وعي بانعكاساته طويلة المدى، فالأنظمة الذكية يمكن أن تقدم خدمات مهمة في التعليم والرعاية والصحة، لكنها ليست بديلًا عن الحضن البشري أو الكلمة الصادقة التي تنبع من قلب حقيقي.
إن أحد التحديات الكبرى اليوم هو إيجاد توازن بين الاستفادة من التقنية والحفاظ على الطابع الإنساني للعلاقات، وهذا لا يتحقق إلا بتعزيز التواصل الحقيقي داخل العائلات والمؤسسات، وتخصيص وقت للتفاعل غير الرقمي، وتنشئة الأجيال الجديدة على قيمة العلاقات الحية.
وفي ظل هذا المشهد المتغير، بات من الضروري أن نعيد النظر في كيفية تصميم الأنظمة الذكية، بحيث لا تكون بديلاً عن التفاعل البشري، بل مكمّلة له، وأن نزرع في المستخدمين الوعي الكافي لكي لا يستسلموا للسهولة المؤقتة التي توفرها الأجوبة الآلية، على حساب المعاني العميقة التي تنبني عليها العلاقات الإنسانية الحقيقية.