
في عالم يتغير بسرعة الضوء، لم يعد الذكاء الاصطناعي ترفًا تقنيًا، بل أصبح جزء لا يتجزأ من البنية اليومية للدولة والمجتمع، أداة تتحكم في القرارات، وتُعيد رسم العلاقة بين الإنسان والمؤسسات.
وبينما تُبهرنا قدراته، يفرض علينا هذا التطور تريثًا أخلاقيًا: كيف نستخدم هذه القوة بحذر؟ وهل نملك في الجزائر رؤية واضحة لأخلاقيات الذكاء الاصطناعي؟
في هذا السياق، التقت “البديل” بالدكتور “علي كحلان”، أحد أبرز الوجوه الوطنية في مجالات الذكاء الاصطناعي والرقمنة، في لقاء خاص تحدث فيه عن التحديات الأخلاقية المرتبطة بتطور الذكاء الاصطناعي في الجزائر، وسبل ضبطها ضمن سياق ثقافي وتشريعي محلي.
نبذة عن الدكتور “علي كحلان”
الدكتور “علي كحلان” هو أحد الأسماء البارزة في مجال التحول الرقمي واستراتيجيات تكنولوجيا المعلومات في الجزائر. وُلد في الجزائر العاصمة في 11 يونيو 1950، وهو عالم حاسوب وأستاذ سابق في المدرسة العسكرية البوليتكنيكية (ENITA)، بدأ مسيرته المهنية في الجيش الوطني الشعبي، حيث شغل منصب ضابط حتى عام 1989، حيث غادر الخدمة العسكرية برتبة نقيب بعد مساهمته في تطوير قطاع هندسة الكمبيوتر، ليحصل على وسام شيفرون الأولى من المؤسسة العسكرية.
في عام 2010 ، كان من بين سبعة رؤساء مؤسسات جزائرية الذين تمت دعوتهم من قبل الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” لحضور القمة الرئاسية الأولى حول المقاولاتية في واشنطن. هذه المشاركة كانت علامة فارقة في مسيرته وأكدت مكانته الدولية كخبير في مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصال.
الدكتور “كحلان” كان جزء من فريق إعداد برنامج “الجزائر الإلكترونية” في 2013، كما شغل عدة مناصب استشارية وتنظيمية في مجال البحث العلمي والتقني. كان عضوًا في اللجنة الوطنية للإنترنت السريع والعالي التدفق، حيث ساهم في تعزيز البنية الرقمية للجزائر. يُعتبر الدكتور “كحلان” أيضًا خبيرًا ومستشارًا لدى معهد Trazar المتخصص في قياس حرية تنظيم المشاريع في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كما كان جزء من الفريق التنسيقي لمشروع MEDIALOG MOSAIQUE الذي يعنى بتطوير قطاع الاتصالات في المنطقة.
علاوة على ذلك، يرأس الدكتور “كحلان” جمعية العملاء البدلاء للاتصالات (AOTA)”، كما يشغل منصب نائب رئيس مؤسسة CARE، وهي أول مؤسسة فكرية جزائرية تهدف إلى تحسين بيئة الأعمال في الجزائر. وهو أيضًا من المؤسسين لمجموعة VIVA الرقمية الجزائرية التي تضم أكثر من ثلاثين مؤسسة، بما في ذلك عشرون شركة ناشئة، كما يرأس لجنة التحكيم الخاصة بـVIVA DZ التي تسعى لدعم الشركات الناشئة الجزائرية في أكبر المعارض العالمية.
على صعيد آخر، يدير الدكتور “كحلان” شركة SATLINKER التي تعد من الشركات الرائدة في مجال الإنترنت وتكنولوجيا الاتصال في الجزائر. وكان له دور مهم في إدخال تقنيات جديدة مثل VSAT وWiMAX إلى السوق الجزائرية. كما عمل على تعزيز استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المؤسسات العسكرية، مما يعكس تأثيره الكبير في جميع المجالات من المدني إلى الاستراتيجي.
من جهة أخرى، عمل الدكتور “كحلان” كمستشار لوزير النقل بين 2020 و2021، حيث أشرف على مشاريع رقمنة القطاع وتطوير استخدام التقنيات الذكية. كما كان عضوا في اللجنة القطاعية الدائمة للبحث العلمي بوزارة البريد وتكنولوجيا المعلومات والاتصال، وكان له دور مؤثر في وضع الأسس لبرنامج “الجزائر الإلكترونية”.
نادرًا ما يخلو عمله من جوانب إعلامية، فقد أسس أول مجلة جزائرية متخصصة في علوم الكمبيوتر في عام 1992 تحت اسم L’Ordinateur. كما شارك في مشروعات تضامنية دولية، أبرزها تأسيس “بيت إلكتروني للاتصال” في مخيم للاجئين الصحراويين بالتعاون مع منظمة أمريكية غير حكومية في عام 2006.
الإطار الأخلاقي: وجهة نظر “كحلان”
في مقابلة له مع “البديل”، أكد الدكتور “كحلان” على استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول، سواء في الإدارة العمومية أو في الشركات الخاصة، يتطلب أولًا إطارًا قانونيًا محليًا صلبًا، لا يُستنسخ من الخارج، بل يُبنى على خصوصيات الواقع الجزائري. يقول:
“الذكاء الاصطناعي قوة كبيرة، ومن الخطير تركها بلا توجيه. ما يضمن الاستخدام الأخلاقي، هو وجود قواعد واضحة تقول: ما المسموح؟ ما الممنوع؟ وكيف نضمن حقوق المواطن؟”
لكنه لا يكتفي بذلك، بل يركز على أهمية الشفافية، معتبرًا أن أي مؤسسة تستخدم خوارزميات في اتخاذ القرار، عليها إخبار المواطنين بذلك، وتمكينهم من فهم آليات هذا التدخل الرقمي. ويضيف: “غياب الشفافية يولد الشك. لا يمكن أن نقبل بقرارات صادرة عن آلة لا نفهمها. المسؤولية ليست فقط على المطوّر، بل كذلك على مستخدم الأداة وعلى الدولة كمُنظّم”.
الأخلاق في التعليم والبحث: ضرورة لا ترف
حين سألناه عن أهمية إدماج أخلاقيات الذكاء الاصطناعي ضمن المناهج التعليمية والبحث العلمي، أجاب بنبرة حاسمة: “لا يمكننا اليوم أن نكوّن مهندسًا أو باحثًا دون أن نُكوّنه على الوعي الأخلاقي. ما نبرمجه في الخوارزميات ليس محايدًا، بل يحمل قيمنا، ونقائصنا أيضًا”.
بالنسبة له، يبدأ كل شيء من مرحلة التكوين، حيث يُزرع الحس بالمسؤولية الرقمية في العقول الشابة. كما يلح على ضرورة أن تكون الأخلاقيات حاضرة في كل مشروع بحثي، منذ أول خوارزمية تُكتب. “التقدّم العلمي لا يجب أن يكون على حساب العدالة أو الشفافية أو السلامة العامة. لا بد من التوازن”.
من يتحمّل العواقب؟ تقاسم المسؤولية
في حال حدوث أخطاء خوارزمية تؤدي إلى أضرار، يوضح الدكتور “كحلان” أن المسؤولية لا تقع فقط على من كتب الكود البرمجي، بل تتوزع بين ثلاث جهات: المطور، المستخدم، والدولة.
“المطور مسؤول عن جودة الخوارزمية والبيانات. المستخدم عليه التأكد من ملاءمة الأداة ومطابقتها للقانون. أما الدولة، فهي الضامن الأخير، المشرّع والمراقب.”
يشبه هذه العلاقة بـ “مثلث المراقبة”، الذي لا يمكن أن يُترك طرف منه فارغًا دون أن يختلّ التوازن.
التحديات الأخلاقية الأبرز في الذكاء الاصطناعي
أشار الدكتور “كحلان” إلى أربع قضايا رئيسية تُعد من أكثر المشكلات الأخلاقية انتشارًا في استعمال الذكاء الاصطناعي:
- التحيز الخوارزمي: حين تُدرّب النماذج على بيانات غير ممثلة للواقع أو مشوهة، فإنها تنتج قرارات ظالمة، خصوصًا في قضايا حساسة كالتوظيف، الصحة أو العدالة.
- حماية البيانات: الذكاء الاصطناعي يتغذى على كميات ضخمة من البيانات الشخصية، مما يجعل الأمن السيبراني واحترام الخصوصية أمرين أساسيين.
- الشفافية وصعوبة الفهم: بعض الأنظمة الذكية أشبه بـ”الصناديق السوداء”، يصعب تفسير قراراتها حتى من قبل مطوريها. وهذه عتمة مقلقة حين يتعلق الأمر بمصير مواطن.
- التبعية التكنولوجية: الاعتماد على برمجيات وخدمات أجنبية من دون تطوير بدائل وطنية يعرض البلد إلى مخاطر استراتيجية، منها التحكم في المعلومات والبنى التحتية.
نحو ضمير جماعي رقمي
إن ما خلصت إليه هذه المقابلة، هو أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مسألة تقنية، بل قضية ضمير جماعي. فلا معنى للقوة الرقمية إن لم تُستخدم في إطار يحترم الإنسان، كرامته، وحقوقه.
ومع دخول الجزائر مرحلة التحول الرقمي ببطء لكن بثبات، فإن تشكيل وعي مجتمعي وحقوقي بهذا الشأن يُعد ضرورة، وليس ترفًا نظريًا. وما لم تتكامل الجهود بين مؤسسات التعليم، والمجتمع المدني، الإعلام والمشرّعين، فإننا نخاطر بإدخال التكنولوجيا من أوسع أبوابها، دون أن نضمن أن تكون في خدمة الإنسان لا العكس.
وفي الختام، فإن الأخلاقيات ليست عقبة أمام الابتكار، بل بوصلته. وإن سؤال “هل يمكن؟” لا يجب أن يُغني عن سؤال “هل ينبغي؟”، تلك هي المهمة الأخلاقية الكبرى التي تنتظرنا جميعًا، مواطنين، ومهندسين، وصحفيين، ومشرّعين، ونحن نرسم ملامح المستقبل الرقمي للجزائر.
ولأننا نعيش لحظة مفصلية من تاريخنا التكنولوجي، فإن الرهان الحقيقي لا يتمثل فقط في تقليد النماذج الأجنبية أو الانبهار بالتطورات المتسارعة التي تفرضها كبرى الشركات العالمية، بل في قدرتنا على ابتكار نموذج جزائري متوازن، ينبع من بيئتنا الثقافية، ويعكس خصوصية مجتمعنا، ويضع مصلحة الإنسان في قلب أي تحوّل رقمي. إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط رقمنة الإدارة أو إدخال الذكاء الاصطناعي في مؤسساتنا، بل هندسة رؤية سيادية تحفظ القيم، وتُؤسس لعدالة تكنولوجية لا تستثني أحدًا. فنحن لا نملك ترف الانتظار، ولا نملك رفاهية الخطأ، لأن الثمن سيكون باهظا على مستوى السيادة المعرفية، وحماية الهوية، واستقرار النسيج الاجتماعي.
بين يدي الدولة اليوم فرصة فريدة لتوجيه المسار، لا نحو الحداثة الفارغة، بل نحو تحول رقمي شامل، عادل، مسؤول وأخلاقي. إنها ليست لحظة للاستهلاك، بل للبناء لا للتقليد.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله