
في عالم مثقل بالصراعات والانعزال العاطفي، حيث تُثقل الأخبار عن الحروب في عدة بلدان من العالم كاهل الإنسان، برزت التكنولوجيا الذكية كملاذ غير متوقع.
وفي خضم هذا التوتر العالمي، بات البعض يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي لا كمساعد رقمي فحسب، بل كرفيق روحي وعاطفي. لم تعد الدردشة مع “شات جي بي تي” وغيره من التطبيقات مشهداً تقنياً فقط، بل تحوّلت في حالات كثيرة إلى فعل نفسي عميق، يُطلب فيه العون والراحة، وحتى النصيحة في أدق تفاصيل العلاقات الشخصية.
“زوكربيرغ” يفتح النقاش: هل يمكن للآلة أن تعوّض غياب الإنسان؟
تصريحات مارك زوكربيرغ الأخيرة التي قال فيها إن الذكاء الاصطناعي قد يعوّض نقص العلاقات الاجتماعية في حياة الأفراد، أثارت موجة من التساؤلات والجدل. فالرجل الذي يقود واحدة من أكبر شركات التواصل الاجتماعي في العالم، أشار إلى أن الإنسان العادي يحتاج نحو 15 صديقًا ليشعر بالاكتفاء الاجتماعي، بينما لا يمتلك في الواقع أكثر من ثلاثة. وهنا، وفقًا لرؤيته، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يسد هذه الفجوة.
لكن هذه الفكرة، رغم منطقها العددي، لم تمر دون انتقادات. فقد وصفها البعض بأنها تجريد للعلاقات الإنسانية من عمقها، وتحويل مشاعر الإنسان إلى “وظائف” قابلة للبرمجة والتخصيص. وفي عالم بات فيه الانسحاب من المجتمع أكثر سهولة، فإن تشجيع الناس على تكوين صداقات مع أدوات رقمية قد يُعمّق من عزلتهم بدل أن يخففها.
الوحدة في أرقام: أزمة عالمية صامتة
مشكلة الوحدة ليست جديدة، لكنها باتت أكثر إلحاحًا في السنوات الأخيرة. تشير أرقام مركز “غالوب” إلى أن واحدًا من كل أربعة أفراد حول العالم يعاني من شعور متوسط أو عميق بالوحدة، أي ما يعادل قرابة مليار شخص. هذه المعطيات تعكس أزمة اجتماعية ونفسية عابرة للحدود، لا تقتصر على بيئة دون أخرى، بل تلامس المراهقين والراشدين وكبار السن على حد سواء.
في مثل هذا السياق، يصبح البحث عن أدوات جديدة للتكيّف مسألة وقت لا خيار. وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي كخيار سهل وسريع، يقدم دعمًا فورياً دون الحاجة إلى موعد أو تكلفة مالية.
منصة رقمية أم معالج عاطفي؟ تجربة مستخدمين من الواقع
منصات التواصل مثل “تيك توك” أصبحت اليوم فضاء لعرض تجارب فردية في استخدام الذكاء الاصطناعي كبديل عاطفي. نساء ورجال يشاركون تجاربهم مع أدوات المحادثة الآلية، مثل مساعدة إحدى النساء في صياغة رسالة لزوجها دون أن تبدو غاضبة، أو لجوء أخرى لاستخدامها كوسيلة لتخفيف ضغط التوتر. حتى أن بعض صانعي المحتوى باتوا يروّجون لفكرة “المعالج الرقمي”، ويعتبرونه خياراً عملياً لمن لا يستطيع تحمّل أعباء العلاج النفسي التقليدي.
إلى جانب “شات جي بي تي”، ظهرت تطبيقات مخصصة لهذا الغرض، مثل تطبيق يقدم “رفيقاً عاطفياً” يُحاكي مشاعر الإنسان، وآخر يهدف إلى تحسين علاقات الأزواج من خلال تدريبات سلوكية وتمارين تواصل. ويقدّم تطبيق ثالث دعماً مبنياً على أسس “العلاج المعرفي السلوكي”، يُستخدم في التخفيف من التوتر اليومي والمخاوف العابرة.
لماذا ينجذب الناس إلى “المُعالج الرقمي”؟
الإجابة، وفق الخبراء، تكمن في عنصر السرية والسرعة والراحة النفسية. تقول الدكتورة جودي هو، المتخصصة في علم النفس العصبي، إن العديد من الأشخاص يشعرون براحة أكبر في التحدث إلى آلة لا تحكم ولا ترفض ولا تسجّل ملاحظات. المعالج الرقمي متاح في أي وقت، لا يطلب مقابلاً مادياً، ولا ينظر إلى المستخدم نظرة تقييمية.
لكن ما تراه الدكتورة ميزة، تراه أخريات مشكلة. فالتفاعل البشري، كما توضح، لا يُختزل في ردود جاهزة أو في محاكاة لغوية جيدة، بل يتطلب عمقاً، لغة جسد، نظرة، وإحساساً حقيقياً لا تملكه الآلة مهما تطورت.
الخط الفاصل بين المساعدة والاحتيال العاطفي
تحذر كامنيا بوجواني، الباحثة في مجال التكنولوجيا العاطفية، من الانجرار العاطفي خلف هذه الأدوات. فتجربة الشعور بالدعم لا تعني بالضرورة معالجة الجذر النفسي للمشكلة. مشاعر معقدة مثل الخيانة، الصدمة، الحزن العميق أو الأفكار الانتحارية، لا يمكن معالجتها بردود رقمية مهما كانت متطورة.
كما تشير إلى خطورة بناء علاقات عاطفية “وهمية” مع أدوات رقمية، قد تقود إلى عزلة اجتماعية أكبر، أو إلى تصوّر مشوّه للعلاقات الواقعية. فالذكاء الاصطناعي لا يشعر، ولا يتعاطف، ولا يعاني، بل يتفاعل وفق أنماط لغوية وتصنيفات مبرمجة مسبقاً.
الخصوصية على المحك: من يستمع إلينا؟
بعيداً عن الجانب العاطفي، تبرز إشكالية أخرى أكثر تعقيداً، وهي الخصوصية. فبينما يخضع الأطباء والمعالجون لقوانين صارمة تحفظ سرية المرضى، لا تزال أدوات الذكاء الاصطناعي في منطقة رمادية قانونياً وأخلاقياً.
تحذيرات باحثين من أن هذه الأدوات قد “تتعلم” من تفاعلات المستخدمين دون علمهم ليست مجرد افتراض، بل واقع تؤكده تجارب سابقة لتسريب بيانات أو استعمالها في تحسين النماذج دون إذن صريح.
ومع غياب رقابة قانونية متينة، تصبح خصوصية المستخدم عرضة للاستغلال، خصوصاً عندما تكون البيانات متعلقة بمشاعر حساسة أو بأزمات نفسية حادة.
الإنسان ليس رقما ولا وظيفة قابلة للتكرار
لا شك أن الذكاء الاصطناعي قد يكون وسيلة فعالة ومفيدة للتخفيف من ضغط الحياة اليومية، وملجأ مؤقتاً في لحظات الوحدة أو الضياع. لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً حقيقياً للعلاقات البشرية، ولا أن يحل محل المعالج النفسي المتفهم أو الصديق الصادق أو اليد التي تربت على كتفك.