تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي.. عجز كامل أمام التفاصيل المالية اليومية

منذ أن ظهر نموذج “شات جي بي تي” في نهايات عام 2022، وتزايد الاهتمام العالمي بتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، اشتعل جدل واسع حول مستقبل الوظائف. فبينما هلّل البعض لما تحققه هذه التقنية من تطور مذهل، عبّر آخرون عن مخاوف متزايدة من أن تحل النماذج الذكية محل البشر في العديد من المهن، لا سيما تلك المعتمدة على التحليل والمعالجة الذهنية.


لكن مع مرور الوقت، بدأت ملامح الواقع تتضح شيئاً فشيئاً. فالتجارب الميدانية والاختبارات المتخصصة كشفت عن حدود هذه النماذج، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمهام اليومية الدقيقة التي تتطلب فهماً متكاملاً للسياق، وربطاً مباشراً بالواقع العملي.

شركة مستقلة لاختبار قدرات الذكاء الاصطناعي

في خضم هذه الضجة، برز اسم “ريان كريشنان”، وهو أحد الأصوات المنتقدة للتفاؤل المفرط بقدرات الذكاء الاصطناعي. ومن منطلق رغبته في تقديم صورة أكثر واقعية عن هذه النماذج، أسس كريشنان شركة أطلق عليها اسم “فالس إيه آي”، مهمتها الأساسية إجراء اختبارات مستقلة وشاملة على نماذج الذكاء الاصطناعي المنتشرة، لتقييم فعاليتها بشكل حيادي بعيداً عن الدعاية التجارية.

أجرت الشركة تجارب دقيقة على 22 نموذجاً معروفاً من نماذج الذكاء الاصطناعي التي تنتجها كبريات الشركات المطورة للتقنيات الحديثة. النتائج كانت مفاجئة للكثيرين: جميع النماذج فشلت في اجتياز اختبار الذكاء المالي، إذ لم تتجاوز نسبة النجاح فيها حاجز 50 بالمائة، رغم بساطة المهام التي شملها الاختبار.

تشير هذه النتائج إلى وجود فجوة حقيقية بين نوعية البيانات التي تتغذى بها هذه النماذج أثناء التدريب، وبين متطلبات الواقع العملي. فمعظم هذه النماذج تتعلم من خلال الأبحاث الأكاديمية والمقالات العلمية، التي غالباً ما تكون بعيدة عن تفاصيل الحياة اليومية أو التعقيدات التي يواجهها العاملون في القطاع المالي، مثل المحللين أو الصحفيين الاقتصاديين.

في تصريح له لصحيفة “واشنطن بوست”، أوضح كريشنان أن الاعتماد الحصري على مواد بحثية نظرية يجعل الذكاء الاصطناعي يتقن الأسس العلمية العامة، لكنه يواجه صعوبة واضحة عندما يُطلب منه أداء مهام عملية تتطلب مهارات بحث دقيقة أو معرفة عميقة بأنظمة وقواعد البيانات المتخصصة، مثل قواعد بيانات الشركات المالية أو تقارير الأوراق المالية المتاحة للعامة.

اختبار من 500 سؤال لمهام واقعية دقيقة

من أجل التأكد من مدى جاهزية النماذج، قررت شركة “فالس إيه آي” إعداد اختبار شامل يتكون من 500 سؤال، بالتعاون مع إحدى المؤسسات المالية المتقدمة. وقد ركّز الاختبار على المهام الواقعية التي يتعامل معها المحللون الماليون والصحفيون يومياً، مثل استخراج بيانات من قاعدة “إدغار” الخاصة بالشركات، وتحليل تقارير هيئة الأوراق المالية، أو حتى البحث عن معلومات تنظيمية دقيقة لا يمكن الوصول إليها إلا بفهم عميق لطبيعة عمل السوق المالي.

وأظهرت النتائج أن حتى النماذج الأحدث، مثل “أو 3” من شركة “أوبن إيه آي”، لم تتجاوز نسبة دقة 48.3 بالمائة، رغم أنه تم تصميمه خصيصاً ليكون قادراً على التعامل مع المعلومات البحثية والمعرفية المعقدة. هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي، على الرغم من سرعته الهائلة في المعالجة، ما زال يفتقر إلى العمق الذي يتمتع به البشر عند التعامل مع السياقات المتغيرة والمعلومات الدقيقة.

الإفراط في الثقة

أحد أبرز الإشكالات، حسب كريشنان، أن التقييمات التي تقدمها الشركات المطورة للذكاء الاصطناعي تكون ذاتية وغير مدعومة بتجارب خارجية مستقلة، فغالباً ما تُسوّق هذه النماذج على أنها قادرة على أداء وظائف معقدة بدقة وسرعة، لكن الواقع يثبت عكس ذلك حين تُختبر في بيئات حقيقية.

غياب آليات تقييم مستقلة يخلق صورة مضللة عن قدرات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يؤدي إلى اتخاذ قرارات متسرعة في قطاعات حيوية، مثل الاقتصاد والمالية، بناء على أوهام تقنية قد تكون بعيدة عن الحقيقة.

ما كشفت عنه شركة “فالس إيه آي” قد يكون مطمئناً من ناحية، ومقلقاً من ناحية أخرى. فهو يطمئن أولئك الذين يخشون فقدان وظائفهم لمصلحة الآلة، ويقلق في ذات الوقت أولئك الذين يتوقعون من الذكاء الاصطناعي أن يكون بديلاً كاملاً للبشر في المستقبل القريب. الرسالة الأهم هنا أن الذكاء الاصطناعي لا يجب أن يُنظر إليه كمنافس مباشر للإنسان، بل كمساعد يمكن تطويره وتوجيهه بشكل أفضل ليستفيد من الخبرات البشرية، لا أن يحاول تقليدها بشكل أعمى.

الاختبارات المستقلة التي أجرتها “فالس إيه آي” تمثل نقطة تحوّل في النقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، فهي تضعنا أمام ضرورة إعادة النظر في أهدافنا من هذه التكنولوجيا. عوضاً عن محاولة استبدال البشر، ربما حان الوقت لتركيز الجهود على تصميم أنظمة مساندة قادرة على تيسير العمل لا التحكم به.

فالذكاء الاصطناعي، رغم قدراته الهائلة، يبقى أداة تعتمد على ما نُدخله فيها من معرفة. وإذا كانت هذه المعرفة سطحية أو منفصلة عن الواقع، فإن النتيجة لن تكون سوى نموذج متقن في الشكل، ضعيف في المضمون.

ولعلّ هذا هو الدرس الأكبر: التقنية لا تكفي وحدها. العقل البشري، بخبرته وسياقه ووعيه المتعدد الأبعاد، ما زال العنصر الأكثر أهمية في معادلة الفهم والتحليل واتخاذ القرار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى