تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي: بين الأسطورة والواقع

هل يمكن للآلة  أن تصبح أذكى من الإنسان؟ يرد جان غابريال غاناسيا: لا، هذه أسطورة مستوحاة من الخيال العلمي. ويستعرض المراحل الرئيسية للبحوث في هذا المجال، والبراعات التقنية الحالية والمسائل الأخلاقية التي تقتضي حلولا بصفة ملحّة.

كما يعرف اليوم، بدأ بمفهوم علمي في عام 1956 في كلية دارتموث في هانوفر بالولايات المتحدة الأمريكية، خلال مدرسة صيفية نظمها جون مكارثي، مارفن مينسكي، ناثانييل روتشستر وكلود شانون. ومنذ ذلك الحين، انتشر مصطلح “الذكاء الاصطناعي” وأصبح من الشائع استخدامه، حيث أثرى المجال التقني وغيّر العالم بشكل كبير،ومع ذلك، يجب التنبه إلى أن فهم بعض الأشخاص لمصطلح “الذكاء الاصطناعي” يمكن أن يكون مشوشًا أحيانًا، حيث يعتقدون أنه يشير إلى كيان اصطناعي موهوب بالذكاء يمكنه منافسة البشر. هذا الفهم المشوش يعود إلى الأساطير والخرافات القديمة، وتم إعادة تنشيطه من قبل بعض الشخصيات المعاصرة، مثل ستيفن هوكينغ وإلون ماسك وراي كورزويل،لكن يجب التفريق بين الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على التقنيات والمعرفة العلمية، وبين الخيال والأساطير. فالذكاء الاصطناعي الحقيقي يقوم على البرمجة والتحليل البياني والتعلم الآلي، وهو يثبت فعاليته وقدرته من خلال الاختبارات والتجارب العلمية، بينما الخيال يمكن أن يدفع بالأفكار إلى الأمور التي لا تمت للواقع بصلة،لذلك، من المهم التفريق بين الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على العلم والتقنية، وبين الخيال الذي يغلب عليه الخيال والأساطير،من وجهة نظر جون مكارثي ومارفن مينسكي، ومن جانب القائمين على المدرسة الصيفية في كلية دارتموث، كان الهدف الأساسي للذكاء الاصطناعي هو محاكاة جميع أشكال الذكاء المختلفة، سواء كانت بشرية أو حيوانية أو نباتية أو اجتماعية أو حتى تصنيفات تفرعية حيوية، باستخدام الآلات،واستند هذا المفهوم إلى الافتراض الأساسي الذي يقول بأن جميع الوظائف المعرفية، مثل التعلم والاستدلال والحساب والإدراك والحفظ في الذاكرة، وحتى الابتكار العلمي والإبداع الفني، قابلة للوصف بشكل دقيق لدرجة يمكن فيها برمجة جهاز الكمبيوتر لتقليدها،منذ بداية العمل في مجال الذكاء الاصطناعي قبل أكثر من ستين سنة، لم يكن هناك دليل قاطع يثبت أو يفند هذا الافتراض. وبالتالي، لا تزال هذه الفرضية مفتوحة للنقاش والاستكشاف، مما يعكس الاعتقاد في أن المجال ما زال يحتفظ بفرص كبيرة للتطور والتقدم في المستقبل.

تاريخ الذكاء الاصطناعي

قد شهد تطورات متباينة على مر الزمن، يمكن تلخيصها في ست مراحل،زمن الأنبياء: في بادئ الأمر، شهد الذكاء الاصطناعي نجاحات مبكرة وإبداعات واعدة، مما دفع ببعض الباحثين إلى تصريحات مبالغ فيها،ومع ذلك، تعرض الذكاء الاصطناعي لانتقادات كثيرة بسبب هذه التصريحات،السنوات المظلمة: خلال منتصف الستينيات، تعثرت وتيرة التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، وشهدت فترة من القيود والانتقادات،الذكاء الاصطناعي الدلالي: خلال هذه المرحلة، ركزت البحوث على علم النفس والذاكرة، وظهرت تقنيات التمثيل الدلالي للمعارف والنظم الخبيرة،الاتصالية الجديدة وتعلم الآلة: شهدت هذه المرحلة تطوير خوارزميات تعلم الآلة التي سمحت للأجهزة بتجميع المعرفة وإعادة برمجتها تلقائياً بناءً على التجارب الخاصة،من الذكاء الاصطناعي إلى الواجهة بين الإنسان والآلة: في هذه المرحلة، رُبط الذكاء الاصطناعي بالروبوتات وواجهات بين الإنسان والآلة، مما أدى إلى ظهور آلات توحي بوجود أوضاع عاطفية ومشاعر،نهضة الذكاء الاصطناعي: منذ عام 2010، تم استخدام تقنيات التعلم العميق لاستغلال البيانات الضخمة، مما أدى إلى تطوير تطبيقات مثمرة في مجالات متعددة،تطبيقات الذكاء الاصطناعي تؤثر في جميع القطاعات تقريباً، مثل الصناعة والبنوك والتأمين والصحة والدفاع، وتمكن من تحويل المهام الروتينية إلى عمليات آلية، مما قد يؤدي في المستقبل إلى تغيير بعض المهن وزوال البعض الآخر تماماً.

سجل تاريخي متباين

شهد الذكاء الإصطناعي العديد من التطورات خلال فترة وجوده القصيرة. ويمكن تلخيصها في ست مراحل• زمن الأنبياء،في بادئ الأمر، مع  نشوة الإبتكار والنجاحات الأولى، انجرّ الباحثون في تصريحات مبالغ فيها نوعا ما، استُهدفوا على إثرها بانتقادات كثيرة. وعلى سبيل المثال، في عام 1958، صرّح الأمريكي هيربرت سايمون، الذي حاز في وقت لاحق على جائزة نوبل للاقتصاد، أنه في غضون عشر سنوات ستصبح  الآلة بطلة عالمية في لعبة الشطرنج، إذا لم يتمّ استبعادها من المسابقات الدولية،السنوات المظلمة،بحلول منتصف الستينيات، تعثرت وتيرة التقدم. وتمكن طفل  في العاشرة من العمر من التغلّب على جهاز كمبيوتر في لعبة الشطرنج عام 1965. وأشار تقرير أصدره مجلس الشيوخ الأمريكي سنة 1966 إلى القيود المتأصلة في الترجمة الآلية. فتعرّض الذكاء الإصطناعي لدعاية سلبية لمدة عشر سنوات،الذكاء الاصطناعي الدلالي،ورغم ذلك لم تتوقف البحوث، لكنها أخذت اتجاهات جديدة. وانصب الاهتمام على علم النفس المتعلق بالذاكرة وعلى آليات الفهم لمحَاولة محاكاتها على الكمبيوتر، كما تم الاهتمام بدور المعرفة في التفكير المنطقي. وهذا ما أدى إلى ظهور تقنيات التمثيل الدلالي للمعارف التي تطورت إلى حد كبير في منتصف السبعينات، والتي أدت أيضًا إلى تطوير ما يسمى بالنظم الخبيرة – سمّيت كذلك لأنها قد تتطلب استخدام معرفة خبراء مهنيين لاستنساخ طريقة تفكيرهم. وقد أثارت هذه النظم آمالًا كبيرة في أوائل الثمانينات بفضل التطبيقات المتعددة التي تم انتاجها، ومنها على سبيل المثال، التشخيص الطبي،الاتصاليّة الجديدة وتعلّم الآلة،لقد أدّى تحسين التقنيات إلى تصميم خوارزميات تعلّم الآلة التي مكّنت أجهزة الكمبيوتر من تجميع المعارف وإعادة برمجتها  تلقائيا انطلاقا من تجاربها الخاصة،وقد أفضى ذلك إلى ظهور تطبيقات صناعية (تحديد بصمات الأصابع، والتعرف على الكلام، إلخ)، حيث تتواجد تقنيات مستمدة من الذكاء الاصطناعي، والإعلامية، والحياة الاصطناعية، وغيرها من الاختصاصات، بغرض توفير نظم هجينة.

 من الذكاء الاصطناعي إلى الواجهة بين الإنسان والآلة

اعتبارا من  أواخر التسعينات، تمّ ربط الذكاء الاصطناعي بالرُوبوتات وبالوَاجهة بين الإنسان والآلة، لإنتاج حواسيب ذكية توحي بوجود أوضاع عاطفية ومشاعر. مما أدّى، على سبيل المثال لا الحصر، إلى إحصاء العواطف (الحوسبة العاطفية) الذي يقيّم ردود فعل الفرد الناتجة عن مشاعره ليعيد إنتاجها على الآلة، ولا سيما إلى تطوير روبوتات قادرة على المحادثة،نهضة الذكاء الاصطناعي،منذ عام 2010، بفضل قوة الآلة، أصبح من الممكن استغلال البيانات الضخمة  بواسطة  تقنيات التعلّم العميق التي تعتمد على استخدام الشبكات العصبية الشكلية. ويجرنا ظهور تطبيقات مثمرة في العديد من المجالات (التعرف على الكلام، التعرف على الصور، فهم اللغة الطبيعية، سيارة ذاتية القيادة، إلخ) إلى الحديث عن نهضة الذكاء الاصطناعي،تطبيقات،لقد تجاوزت العديد من الإنجازات المعتمدة على تقنيات الذكاء الاصطناعي قدرات الإنسان: لقد هزمت آلة في لعبة الشطرنج  بطل العالم في عام 1997، كما تفوقت سنة 2016 آلات أخرى على أحد أفضل اللّاعبين في العالم في لعبة «الجو»، وعلى لاعبين ممتازين في لعبة البوكر. وتقوم أجهزة الكمبيوتر بإثبات – أو بالمساعدة على إثبات – النظريات الرياضية. ويتم بناء المعارف بشكل تلقائي انطلاقا من بيانات ضخمة تقاس بالتيرابايت (1012 بايت) أو حتى بالبيتابايت (1015 بايت)، باستخدام  تقنيات التعلّم الآلي،وبفضل تقنيات التعلم الآلي، تقوم الآلات بالتعرف على الكلام  وتدوينه، مثلها مثل السكرتيرة-الراقنة في السابق، وتقوم أخرى بالتعرف بدقة على سمات الوجه أو بصمات الأصابع من بين عشرات الملايين، وقراءة النصوص المكتوبة باللغة الطبيعية. كما  وجدت بفضل هذه التقنيات سيارات ذاتية التحكم، وآلات قادرة على تشخيص الورم الميلانيني أفضل بكثير من الأطباء المختصين في الأمراض الجلدية، و ذلك اعتمادا على صور فوتوغرافية للشّامات الجلدية يتم التقاطها باستخدام  الهواتف المحمولة. وأصبحت الروبوتات تحل محل الإنسان المقاتل في الحروب، وآلية سلسلة الإنتاج بالمصانع في تزايد مستمر،ومن ناحية أخرى، يستخدم العلماء هذه التقنيات لتحديد وظيفة بعض الجزيئات الحيوية، وخاصة البروتينات والمجينات، من خلال  تسلسل مكوناتها،الأحماض الأمينية بالنسبة للبروتينات، والجزء الأساسي بالنسبة للمجين،وبشكل عام، تشهد كل العلوم قطعا معرفيا أساسيا مع ظهور ما يسمى بتجارب «إن سيليكو» (تجارب في بيئة افتراضية)، لأنها تتم  بالاعتماد على بيانات ضخمة، بفضل نظم قوية لمعالجة المعلومات تتكون نواتها من السيليسيوم، مما يجعل هذه التجارب تتعارض مع التجارب في الوسط الحي التي تُجرى على الجسم الحي، وعلى وجه الخصوص مع التجارب المختبرية التي تُجرى  في أنابيب زجاجية،وتؤثر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع القطاعات تقريبا، وخاصة في الصناعة والبنوك والتأمين والصحة والدفاع، ذلك أنه أصبح من الممكن تحويل العديد من المهام الروتينية الحالية إلى عمليات آلية، وهذا من شأنه أن يغيّر صبغة العديد من المهن  وقد يؤدي إلى زوال بعضها نهائيا.

أي مخاطر من الناحية الأخلاقية؟

باستخدام الذكاء الاصطناعي، أصبحت معظم أبعاد الذكاء – ربما باستثناء الفكاهة – موضع التحليل وإعادة البناء العقلاني عن طريق أجهزة الكمبيوتر. وبالإضافة إلى ذلك، تجاوزت الآلة  قدراتنا المعرفية في معظم الميادين، مما يجعل البعض يخشى مخاطرها من الناحية الأخلاقية. تتمثل هذه المخاطر في ثلاثة أنواع: ندرة فرص الشغل باعتبار أن الآلة ستعوض الإنسان لتأدية العديد من المهام، والانعكاسات على استقلالية الفرد وخاصةً على حريته وأمنه، وتجاوز البشرية التي قد تزول  لتحل محلها آلات تفوقها”ذكاء”،إلا أنه إذا تم تدارس الوضع بصفة دقيقة، يتبين أن الشغل لا يزول بل هو على العكس تماما، يتغيّر و يتطلب مهارات جديدة. وبالمثل، ليس هناك تهديدا لاستقلالية  الفرد وحريته بسبب تطوّر الذكاء الاصطناعي، شريطة أن نظل في يقظة أمام اختراق التكنولوجيا لحياتنا الشخصية،وختاما، خلافاً لما يدّعي البعض، لا تشكل الآلات  خطراً وجودياً على البشرية، لأن استقلاليتها ذات طابع تقني ليس إلّا، حيث أنها لا تعكس سوى سلسلة من الروابط السببية المادية، بدءا من جمع المعلومات وصولا إلى صنع القرار. وعلى العكس، لا تملك الآلة استقلالية على الصعيد الأخلاقي، لأنه حتى لو حدث أن أربَكتنا وضلّلتنا أثناء اشتغالها، فإنها لا تمتلك إرادة ذاتية، وتظل خاضعة للأهداف التي حدّدناها لها.

اعداد:جلال يياوي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى