
في خطوة جريئة تعكس طموحات المملكة نحو امتلاك زمام المبادرة في الاقتصاد الرقمي العالمي، كشفت شركة “هيوماين” السعودية عن رؤيتها المستقبلية التي تستهدف معالجة 7 بالمائة من عمليات تدريب واستنتاجات الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم بحلول عام 2030، ضمن مشروع ضخم تتجاوز تكلفته 77 مليار دولار.
مشروع بحجم الطموح الوطني
لا تنفصل هذه الخطة عن أهداف رؤية المملكة 2030، بل تشكل تجليًا عمليًا لركائزها التقنية، إذ تسعى “هيوماين” إلى تأسيس بنية تحتية رقمية غير مسبوقة من خلال امتلاك قدرة مركز بيانات تعادل 1.9 غيغاواط. هذا الرقم لا يعكس فقط حجم التطلعات، بل يترجم عزمًا واضحًا على خلق منظومة ذكاء اصطناعي سيادية تُمكِّن المملكة من أداء دور محوري في عصر التقنية فائقة الذكاء.
التمويل والهيمنة على الأسواق الرقمية
الطموح التقني لا ينفصل عن أدواته المالية، ولهذا أعلنت “هيوماين” عن تأسيس صندوق استثماري جريء بقيمة 10 مليارات دولار تحت اسم “هيوماين فينتشرز”، يركّز على تمويل الشركات الناشئة المختصة بالذكاء الاصطناعي في أمريكا وأوروبا وآسيا. بهذه الخطوة، تتحول المملكة من مجرد مستهلك للتقنيات إلى شريك ممول وموجِّه للمسارات الابتكارية المستقبلية في العالم.
شراكات تقنية استراتيجية ضمن بنية سيادية
اللافت في تحركات “هيوماين” أنها تتسم بنهج مزدوج: فهي من جهة تعقد شراكات استراتيجية مع كبريات الشركات التقنية مثل “إنفيديا” و”إيه إم دي” و”كوالكوم”، ومن جهة أخرى تطرح نفسها كشريك سيادي تفاوضي مع شركات أمريكية كبرى لبيع حصص في وحدات مراكز البيانات، وفق ما نقلته صحيفة “فاينانشال تايمز”. هذا التوازن بين التعاون والانفتاح من جهة، والسيادة والبوصلة الوطنية من جهة أخرى، هو ما يميز المشروع السعودي عن غيره من المبادرات الإقليمية أو الدولية.
ذكاء اصطناعي بهوية سعودية
بعيدًا عن الأرقام، تنبئ هذه الخطوة بولادة هوية رقمية سعودية مستقلة، تتجاوز استيراد البرمجيات أو توطين الابتكار إلى تصدير الحلول والمعايير التقنية ذات الطابع المحلي. فتدريب الذكاء الاصطناعي هو ليس مجرد تشغيل بيانات ضخمة، بل توجيه خوارزميات لتفهم الإنسان وسلوكياته وثقافته. من هنا، فإن دخول “هيوماين” لهذا المجال لا يعني فقط التوسع في الأعمال، بل ترسيخ لرؤية ثقافية ومعرفية عربية داخل تقنيات المستقبل.
الجغرافيا السياسية للتقنية
في ظل التوترات العالمية حول من يملك الذكاء الاصطناعي ومن يوجهه، تمثل السعودية عبر “هيوماين” حالة لافتة لنموذج جديد من القوة الناعمة الرقمية. فالشراكات التي تُبنى مع شركات مثل “أوبن إيه آي” و”إكس إيه آي” المرتبطة بإيلون ماسك، تتجاوز الأبعاد التجارية إلى بعد استراتيجي: إعادة تشكيل موازين القوى التقنية من خلال الحضور العربي في قلب شبكات التأثير العالمية.
لماذا الآن؟ توقيت غير عشوائي
تزامن إعلان المشروع مع زيارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وعدد من كبار المستثمرين في قطاع التكنولوجيا يحمل دلالات سياسية واقتصادية. فالمبادرة الجديدة لإدارته، التي سمحت لموردي التقنية الأمريكيين بالتعامل مع الشركات السعودية، تمثل اعترافًا ضمنيًا بأن السعودية باتت لاعبًا لا يمكن تجاهله في معادلة الذكاء الاصطناعي. وهذا يفتح الأبواب أمام تسويات جديدة تعيد رسم طبيعة العلاقات بين الشرق الأوسط والتقنية الغربية.
نحو قيادة رقمية شرق أوسطية
الرهان السعودي عبر “هيوماين” لا يقتصر على الداخل، بل يطمح إلى أن تتحول المملكة إلى مركز إقليمي لتطوير وتدريب الذكاء الاصطناعي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مستفيدة من موقعها الجغرافي، وسياستها الاقتصادية المنفتحة، وقدرتها على اجتذاب العقول والاستثمارات. ومع تسارع حركة العواصم العربية نحو الرقمنة، ستكون “هيوماين” بوابة العبور إلى ذكاء اصطناعي ناطق بالعربية، ومُدرّب على واقع المنطقة.
تحديات المستقبل بين الطاقة والمعرفة
لا يمكن الحديث عن تدريب الذكاء الاصطناعي دون التطرق إلى الطاقة، فالسعة المخططة لمراكز البيانات السعودية تتطلب بنية تحتية كهربائية تتجاوز 139 غيغاواط، وهو رقم ضخم بكل المقاييس. هذا يطرح تساؤلات حول التوازن بين التوسع التقني والاستدامة البيئية، ومدى قدرة المملكة على ابتكار حلول للطاقة المتجددة تدعم هذه الطموحات، دون أن ترهق الموارد أو تؤثر على مسارات التنمية الأخرى.
في ظل هذا التوجه، تصبح الرياض ليست فقط عاصمة سياسية واقتصادية، بل أيضًا مركزًا لترميز المستقبل. فشركة “هيوماين” لا تبني فقط مركز بيانات أو صندوق استثمار، بل تسهم في إعادة كتابة القواعد العالمية للذكاء الاصطناعي. ومع كل خطوة، يتضح أن المملكة لا تسعى فقط إلى دخول السباق، بل إلى تصميم مضمار جديد يتناسب مع رؤيتها وثقافتها وطموحاتها.