
لم تعد الصورة مجرد لقطة عابرة أو توثيق لحظة، بل أصبحت حجر الأساس في بنية صناعة المحتوى الرقمي المعاصر.
تحوّلت الصورة من كونها أداة توصيل إلى مركز ثقل تتحكم في شكل الرسالة، معناها، ومصيرها التفاعلي. غير أن هذا التحوّل لم يكن بريئًا، إذ ارتبط مباشرة بمفهوم “الجودة”، لا بوصفها معيارًا فنيًا فقط، بل كأداة فرز بين المحتوى المرئي المؤثّر والمحتوى المنسي.
جودة الصورة كمرآة لقيمة الإنسان
تنعكس جودة الصور المستخدمة في صناعة المحتوى، بشكل غير مباشر، على قيمة من يظهر فيها أو من ينتجها. ففي عالم رقمي سريع الأحكام، يُنظر إلى الشخص أو الفكرة المصورة بجودة عالية باعتبارها أكثر أهمية أو تأثيرًا، بينما تُهمّش الصور الرديئة حتى لو كانت مشبعة بالمعنى أو الصدق. هذا الانزياح جعل من الجودة الفوتوغرافية معيارًا ثقافيًا لتحديد الجدارة بالظهور أو التفاعل.
هل تحكم الصورة على المضمون؟
أمام الكمّ الهائل من المحتوى الذي يُضخ يوميًا، بات الحكم على النص أو الرسالة مرتبطًا بالصورة المرافقة له. صورة مشوّشة أو سيئة الإضاءة كفيلة بإسقاط النص كاملًا في هوّة اللامبالاة. وهذا يطرح إشكالًا معرفيًا: هل فقدت الكلمات سلطتها؟ وهل تحولت الصورة من خادمة للمعنى إلى حاكمة عليه؟ الإجابة لا تبتعد كثيرًا عن الواقع، فالصورة، اليوم، تحكم ولا تُحكم.
العدالة البصرية: بين الامتلاك والإقصاء
الجودة ليست مجانية. إن الحصول على صورة عالية الجودة يتطلب إمكانات: كاميرا احترافية، أدوات إضاءة، خبرة تقنية أو برامج متخصصة. هذا الواقع خلق نوعًا من “اللامساواة البصرية” في فضاء يُفترض أنه مفتوح للجميع. أصحاب الموارد يصنعون محتوى يبدو مثاليًا، فيما يُقصى الآخرون بصمت، ليس بسبب ضعف أفكارهم، بل فقط لأن صورهم لا تليق بمزاج المنصات.
من التعبير إلى التجميل: انزلاق المعايير
حين يُصبح الهمّ الأساسي هو تحقيق صورة مثالية من حيث النقاوة والتناسق، يُخشى أن يُهمل المعنى لصالح الشكل. وهذا ما يحدث تدريجيًا في محتوى الأفراد والمؤسسات: تنميق الصورة، تعديلها، تصفيتها، وتوجيهها لتبدو جذّابة، حتى وإن كانت بعيدة عن الواقع أو مزيفة تمامًا. هنا تتجلى المعضلة الأخلاقية: هل الجودة تخدم الحقيقة أم تُخفيها؟
منصات المحتوى كصانعة لأذواق الجودة
تؤدي خوارزميات المنصات الرقمية دورًا جوهريًا في تحديد ما الذي يُعتبر “جودة” في الصورة. فهي تروّج لأنماط محددة من الإضاءة، الألوان، الزوايا، والموضوعات، وتجعلها هي القاعدة، ثم تُعاقب المحتوى الخارج عنها بتقليل وصوله أو إخفائه. بهذا، تتحول الجودة من مفهوم إبداعي حرّ إلى معيار مفروض، لا يُكافأ فيه الأصالة، بل الخضوع للمقاييس السائدة.
الذاكرة الجمعية في قبضة الجودة
الصور التي تحفظها المجتمعات، وتعيد تداولها، وتستلهم منها رموزها الثقافية، غالبًا ما تكون ذات جودة عالية. لكن ماذا عن الصور التي لم تُوثق بكاميرات احترافية؟ ماذا عن الروايات التي لا تملك أدوات البث الفاخر؟ إن اختلال ميزان الجودة قد يؤدي إلى تغييب وقائع ومعانٍ من الذاكرة الجمعية فقط لأنها لم تُسجّل بجودة ترضي المعايير البصرية السائدة.
جودة الصورة كرافعة للسلطة الرمزية
في عالم يؤمن بالصورة قبل الكلمة، تمنح الجودة سلطة رمزية لصاحبها. صانع المحتوى الذي يسيطر على أدوات إنتاج الصورة بجودة عالية يمتلك القدرة على تشكيل المخيال العام، التأثير في الرأي، وتوجيه السرديات. ومن هنا، لم تعد الجودة مجرد تفاصيل تقنية، بل باتت سلاحًا في يد من يملكها، وعتبة لا يستطيع تجاوزها من يُقصى عنها.
الطفرة الرقمية وتضخم التوقعات البصرية
مع ارتفاع عدد صانعي المحتوى، ارتفعت توقعات الجمهور بشأن الصورة. أصبح المعيار الضمني أن تكون كل صورة وكأنها مأخوذة من مجلة فاخرة أو من مشهد سينمائي، مما فرض ضغطًا هائلًا على الأفراد والمؤسسات على حد سواء. فأصبحت الجودة لا خيارًا إبداعيًا، بل ضرورة بقاء. وهذا ما أفرغ بعض الإبداع من عفويته، واستبدله بمعايير تجارية بحتة.
في ظل هذا الواقع، يبرز سؤال عميق: هل يمكن تجاوز سطوة الجودة دون التفريط في جمالية الصورة؟ ربما يكون الحل في استعادة البساطة، في تبني “الجودة الصادقة” لا المثالية المصطنعة، وفي إعادة الاعتبار للمعنى لا المظهر فقط. فصناعة المحتوى لا يجب أن تكون سباقًا تقنيًا نحو أفضل صورة، بل فضاءً مفتوحًا للتعبير الإنساني بكل درجات الضوء والظل.