
يشكل المطبخ عنصرا أساسيا في مسيرة المرأة، منذ القديم إلى اليوم، رغم ما يروج بأن الرجل سيد المطبخ، فهي تعشق ما تطبخه أناملها وما تبدعه من أذواق وأشكال لذيذة، تجتهد لتبهر نفسها ومقربيها بأطباق مميزة ولو كانت بمقادير بسيطة، بيد أنه بمرور الوقت وتطور الحياة، أصبح تركيز المرأة على طلب وجلب الأكل من خارج البيت أكثر في وجود التواصل الاجتماعي، هذه الوسائل التي ساهمت بطريقة في انتشار مطاعم الأكل الجاهز والمطاعم الفاخرة، التي أصبحت تطغى على المطاعم الشعبية وطبخ البيوت.
وللغوص أكثر في هذا العالم الساحر، الذي أصبح يشكل حلقة دقيقة تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، ارتأت جريدة “البديل” الاقتراب من السيدة “جميلة تيس”، أشهر الطباخات منافسة للذكور في المطبخ الشعبي بأعرق الأحياء الوهرانية، حي “سانبيار” بوسط المدينة، التي اشتهرت بذوق متميز “جزائري، تونسي”، فكان هذا الحوار:
أهلا، من هي الطباخة “جميلة تيس”؟
مرحبا، أنا محظوظة لأنني تونسية الأصل، جزائرية الهوى والمنشأ، فأنا من مواليد 08 أوت 1961 بالحي الشعبي الحمري، بوهران، من أم عائلة غليزانية استقرت بوهران، ووالد قدم من تونس مارا بالولايات الشرقية الجزائرية انطلاقا من خنشلة ليستقر به المقام في وهران في 1945، مشكلا عائلة من 7 أولاد، فنحن 4 بنات و3 أولاد. وقد منحوني اسم امرأة عظيمة في تاريخ الجزائر، هي المجاهدة البطلة “جميلة بوحيرد”.
كيف دخلت عالم الطبخ؟
كان عمري لا يتجاوز 13 سنة، عندما بدأت العمل مع والدي، كموزعة وبائعة للزبائن، بمحله الصغير لبيع السفنج ببلاطو، توقفت رغم أنني كنت متفوقة في مادة الرياضيات، وقد قالت لي وقتها إحدى الأستاذات بأنني سأشتغل في التجارة، لأنني ممتازة في الحساب.
فقد كنت ألتحق بمحل والدي كلما انتهت الدراسة في المساء لمساعدته، لكنني كنت ألاحظ وأركز على كيفية عمله، حتى امتلكت معرفة بطريقة التحضير، وقد كنت أكتفي بالمساعدة كغطس الزلابية في العسل. بعدها بفترة أصبت بمرض قاهر، كدت أفقد عقلي وقتها، تأثرت نفسيا لأكثر من 3 سنوات، حتى حدثت معي شبه معجزة، كنت نائمة، شعرت بوجود أشخاص حولي، لم أعرفهم لكن كل ما قالوا لي، هو: انهضي لتشتغلي، الرزق موجود ببيتكم، افتحي محل. وقد أصبت بالحمى على إثرها، بعدها بدأت أتعافى، وطلبت من والدي السماح لي بفتح محل، في البداية عارض الفكرة لكن مع الوقت تقبل.
بعت مجوهراتي، وبدأت في تجهيز المحل بأدوات بسيطة لصنع “السفنج”، وأنا أفتقد للخبرة، استعنت بأحد التونسيين هنا بوهران من أجل صنع “السفنج” لأن والدي كان في زيارة إلى تونس ورمضان على الأبواب، وقد ضيعت الكثير من العجين أنا وأختي لجهلنا بطريقة التحضير، لكن ذلك التونسي “عمي حسين”، ربي يرحمه، ساعدنا وأنقذنا، بعد فترة تعلمت الطريقة الصحيحة للتحضير، فأبلغته أنني سأتخلى عن خدمته، لكن يمكنه الحضور والحصول على الدعم متى احتاج إلى ذلك. وبعد عودة والدي إلى وهران، بدأت أتعلم أسرار وطريقة التحضير منه، لأنطلق في مشروعي، وعقب عودة شقيقي “عزيز” من تونس، حيث قضى هناك 10 سنوات لظروف قاهرة، غيرنا نشاط المحل من “السفنج” و”الزلابية” إلى مطبخ شعبي، حتى اكتسبنا شعبية تساهم إلى اليوم في شهرة مطعمنا الشعبي بـ “سامبيار”.
سمعنا أن محل والدك كان له دورا مهما أثناء الثورة التحريرية، كيف ذلك؟
نعم، والدي معروف “موسى التونسي”، لقد انخرط والدي في صفوف الثورة التحريرية من البداية، فقد كان ينقل المناشير، الأسلحة والرسائل بين المجاهدين إلى جانب تحويل محل السفنج إلى مخبأ لأسلحة المجاهدين، كما أنه سجن بالسجن الاستعماري بعد انكشاف أمره لمدة 6 أشهر، كما تعرض لفقدان أصبعه تحت التعذيب.
وفي إحدى المرات كان يحضر “السفنج”، وكان عنده بالمحل مجموعة مجاهدين ينظفون الأسلحة، وفجأة انفجر مسدسا في أيديهم، خوفا من الاستعمار، فتم خلق فوضى بالمحل، قلبوا المقلاة وبعثروا العجين وكل ما هو موجود بالمحل وبعد وصول الجنود الفرنسيين، أخبرهم أن قارورة الغاز أحدثت انفجارا بالفرن، وقد انطلت الفكرة على الفرنسيين فانصرفوا دون مشاكل، وقد دعمتهم إحدى الفرنسيات التي تقف إلى جانب الثورة الجزائرية بشهادتها.
وكثيرا ما كانت والدتي تستغلني وأنا صغيرة لإخفاء المسدسات والمناشير بين لفات القماطة على جسدي، لأن الفرنسيين لا يفتحونها، وإنما يفتشون كل أركان وزوايا البيت بحثا عن المجاهدين ومستلزماتهم، وقد بقي مجاهدا حتى نيل الاستقلال في 1962. وقد رفض والدي رحمه الله تلقي منحة المجاهدين أو مقابلا ماديا نظير مشاركته في الثورة الجزائرية، لأنه كان يراها واجبا مقدسا ووسام شرف على صدره.
إذن والدك كان جزائري الروح؟
طبعا كان يعشق الجزائر وشعبها وغرس ذلك فينا، لكن شعور الغربة لم يفارقه، أتذكر جيدا وأنا صغيرة، حين جثم على ركبتيه ذات مرة وهو يبكي بعد وفاة جدتي التي هي والدته، وقد كنا كعائلته نشعر بغربته، رغم أننا حاولنا احتوائه والتخفيف من شعوره، فقد كنا نحن نشعر بالدفء وسط أخوالنا الجزائريين ونحس بالفرح ونحن بتونس بين أعمامنا هناك، لكنه في الجزائر لم تكن له سوى والدتي التي كانت تحيطه برعاية خاص ونحن أولاده، رغم الحب الكبير الذي كان يكنه له المحيطين به من الجزائريين، لكن الغربة عن العائلة لها تأثيرها مهما توفر من الحب والفرح، لقد مر على وفاته أكثر من 13 سنة، إلا أنني أتذكر كل اللحظات التي عشتها برفقته، هو ووالدتي التي رحلت هي الأخرى منذ سنتين.
ما هي خصائص مطبخك الشعبي؟
في مطبخنا الشعبي، تجدون الأطباق الجزائرية والتونسية، إضافة إلى تلبية طلب الزبائن من الأطباق.
نحن نوفر طبقي “الشباطي” و”الفريكاسي”، وهما من المطبخ التونسي الأصيل، يعتمدان على التونة وعناصر أخرى، إلى جانب أنواع الأسماك، التي نحرص على أن تكون جديدة، تطبخ أمام مرأى الزبون، إضافة إلى كل ما هو تقليدي (ببوش، دوارة، بوزلوف، اللسان وعجة مرقاز تونسية)، في وقت نركز على التوابل، الطماطم، الحار التي تعتبر من أسرار الطبخ الجزائري، وهو ما يجعلنا نختص بميزات حولتنا إلى مركز اهتمام مختلف الزبائن من كل ولايات الجزائر.
ما هو الفرق بين الطبخ التقليدي والعصري؟
للمطاعم الشعبية سحر خاص، لا يمكن أن يتوفر في المطاعم العصرية، فالشعبية تكتنز نكهات البيت العتيق، بأذواق تشعر الزبون بوجوده في البيت وسط جلسة تقليدية بين روائح توابل تؤثر حتى على عقله، فيشعر بالهدوء والاسترخاء وتحرك لديه رواكد الذاكرة، بينما المطاعم العصرية، فهي تركز على البرتوكول والمظاهر الصارخة، إلى جانب نوع الطعام الجاف من السوائل، الذي يفتقد إلى النكهة وإنما يعتمد بكثرة على الأجبان.
لماذا يقبل شباب اليوم على الأكل السريع بدل الأكل التقليدي؟
شباب اليوم يعيش في عصر السرعة، ينفر من الطبخ التقليدي ويسارع للأكل السريع “الطاكوس” والبيتزا، بينما تبقى الأطباق التقليدية والعادية خاصة تلك التي بها مرق وتوابل خضر من أهم الأطباق الصحية التي تحفظ سلامة الجسد وتغذيه، أفضل من الأطعمة الجاهزة التي بالاستمرار في تناولها والتركيز عليها يمكن أن تظهر على المستهلك اضطرابات صحية وقد يصاب بالأمراض في الجهاز الهضمي، كما أنها تؤثر على البنية الجسدية، التي تصبح ضعيفة وهشة، والدليل آباؤنا في الماضي كانوا أقوياء البنية وأجساد صلبة نظرا للأكل الطبيعي. الأفضل أن تؤكل مرة أسبوعيا أو مرتين حفاظا على سلامتهم.
لماذا تراجع إقبال المرأة على المطبخ؟
الإنترنت اليوم زادت من تهاون المرأة في المطبخ، فقد أصبحت تطلب الأكل من خارج البيت الأكل الجاهز، في وقت يمكنها الإبداع في مطبخها، إلى جانب اعتمادها على أمها في التحضير، في حين كنا في الماضي نتدرب على المطبخ ونعشق الابتكار في الأطباق، مهما كان تفتح المرأة لابد أن تكون حاضرة في ميدان الطبخ، حتى تضيف لمستها في الذوق الأطباق، ما يعني أن تحرر المرأة وخروجها للعمل خارج البيت لا يمنعانها من دخول المطبخ، بالعكس، عليها أن تثبت وجودها ببصمتها الخاصة وتبسط سيطرتها على المطبخ، حتى تكون متميزة عن غيرها بإبداعاتها، لاسيما وأن الطبخ يعد من أسرار السيطرة على الرجل، والدليل أنه كلما سئل عن الطعام، يسارع إلى القول “مهاما أكلت، يبقى أكل والدتي وحده يصنع الفارق”، والسر في ذلك أن الطبخ يمزج بالمشاعر.
هل تجيدين الطبخ فقط، أم هناك هوايات أخرى في مسيرتك؟
والدتي من غليزان لكنها كانت تسكن في وهران، كانت جميلة جدا، كانت خياطة وكانت تبدع في مجال حياكة الصوف، وفي الأعياد كانت تخيط وتحيك لنا ملابس العيد وحدها وكنا نخرج مع أترابنا في كامل أناقتنا وجمالنا، فقد ساعدت والدي في تربيتنا والتكفل بنا.
وقد تعلمت منها الخياطة، وكنت أخيط لكنني غادرت المجال لأن الكثير من النساء لا تدفع الأسعار وتماطل حتى أمل وأتجاوز، لقد خسرت في تسيير العملية، كما اشتغلت في دار إنتاج الموسيقى “الكاسيت”، كنا نلف الشريط داخل الكاسيت، عند محمد ستار ميوزيك، الله يرحمه، الزهوانية، مامي، خالد…، وقد تزوجت موسيقيا وملحنا، في العشرين من عمري، وطلقت بعدما أنجبت طفلا، اليوم هو متزوج وله 3 أميرات “ليليا، ألماس وماريا” ما شاء الله، وهنا أشير إلى أننا تزوجنا كلنا من جزائريين وجزائريات، ماعدا شقيقتنا الكبرى التي تزوجت تونسيا، وهي مستقرة بتونس إلى جانب آخرين، في حين بقينا نحن أربعة بالجزائر إلى اليوم، نزور تونس كلما سمحت لنا الظروف، لأن أصولنا مغروسة هناك، ولا يمكن لتخلي عنها.
ما هو أفضل شعور يتملكك عند تعاملك مع الزبائن؟
أفضل إحساس وشعور في تعاملنا مع الزبائن، هو تلك الفرحة التي تظهر على المرأة التي تكون في فترة الوحم وتشتهي أكلات معينة وتطلبها منا، نقدمها لها مجانا، وبعد فترة نرى هؤلاء المواليد كبارا، إحساس جميل وخاص نشعر به، مع العلم أننا نقدم طعام الحامل مجانا.
هل من كلمة أخيرة؟
أشكركم على زيارتكم، كما أتمنى أن نحظى بمطعم أوسع من محلنا هذا الذي يعتبر ضيقا وهو مساحة مستغلة من بيتنا العتيق، من أجل توسيع نشاطنا واستقبال زبائن أكثر، استجابة لطلباتهم الكثيرة، كما أستغل جريدتكم لأبعث بتحياتي إلى شعبي ببلدي تونس وأجدد شكري لشعبي الجزائري، متمنية الاستقرار والتطور للبلدين.
حاورتها: ميمي قلان