تكنولوجيا

التقنية ليست بريئة.. مواقع التواصل الاجتماعي كأدوات هيمنة ناعمة

غالبًا ما يُقدَّم التقدم التكنولوجي على أنه ثمرة عبقرية بشرية خالصة، محايدة وموضوعية، تقف على مسافة واحدة من الجميع، وتعد بخدمة الإنسان وتيسير حياته. لكن هذه الصورة المثالية تتهشم سريعًا حين نمعن النظر في الكيفية التي تُصمَّم بها أدوات التقنية، خصوصًا في عالم منصات التواصل الاجتماعي، وفي الأجندات التي تُحرّك نماذج تشغيلها وتوجه خوارزمياتها وتُسخّر قوتها التحليلية ومراكز بياناتها.

البراءة المخادعة للتكنولوجيا

ليست مواقع التواصل الاجتماعي مجرّد منصات تواصل بين الأفراد أو فضاءات رقمية للتعبير الحر. إنها ساحات ضخمة يعاد فيها توزيع القوّة، والسيطرة على الرأي العام، بل وعلى أنماط الحياة والاستهلاك. المستخدم العادي يظن أنه يدخل تطبيقًا بسيطًا لمشاركة صورة أو مشاهدة مقطع طريف، لكنه في الحقيقة يخضع دون وعي لمنظومة رقابة وتحليل تتعقب سلوكه بدقة متناهية، وتُحوِّله إلى منتج قابل للبيع في أسواق الإعلانات أو أدوات الإقناع السياسي.

الخوارزميات تملي شروط العمل

ما نشهده اليوم من تسريحات جماعية للموظفين، وإعادة هيكلة داخل كبرى الشركات التقنية، لا ينبع من قصور في التكنولوجيا، بل من توجيه التقنية نفسها لخدمة أهداف تقشفية، قائمة على تقليص الكلفة وتعظيم الأرباح دون اعتبار للقيم الإنسانية أو الاجتماعية. صارت الخوارزميات تحدد من يبقى ومن يُستَغنَى عنه، ومن يصل محتواه إلى الملايين ومن يُطمر في القاع الرقمي. هي سلطة بلا وجه، تُملي قراراتها من خلف الشاشات.

لقد جرى الترويج للذكاء الاصطناعي كأداة لتحرير الإنسان من الأعمال المملة وتوسيع آفاق الإبداع. لكن واقع الحال يُظهر كيف يُستَخدم هذا الذكاء، في كثير من الأحيان، لتعزيز المراقبة، وتقليص التعدد، وترسيخ التوجّهات السائدة، بل وتصفية الأصوات المعارضة. فحتى المقاطع المرئية التي تنتجها الخوارزميات اليوم تُبنى على بيانات تعكس أهواء السائد، لا اختلاف الهامش، ما يجعل التقنية أداة لإعادة إنتاج ما هو قائم، لا كسره أو مراجعته.

الهيمنة عبر الترفيه

الطابع الترفيهي الذي يغلف محتوى مواقع التواصل ليس دليلًا على براءتها، بل هو الغلاف الأكثر نجاعة لتمرير التأثيرات النفسية والثقافية والاقتصادية. فبين ضحكة سريعة وتحدٍّ راقص، تُعاد هندسة الذوق العام، وتُروَّج ثقافة استهلاك مشوّهة، وتُزرع مقاييس نجاح فردية لا تقيم وزنًا للقيمة أو للوعي. التقنية هنا لا ترفه، بل تُدجّن، وتُصنّف، وتُحدّد ما ينبغي أن يُحَبّ وما يجب أن يُنسى.

في ظل غياب قواعد واضحة لمحاسبة الشركات التقنية، تصبح هذه المنصات أشبه بأنظمة مغلقة لا تُراجع إلا من داخلها. لا أحد يعرف بدقة كيف تعمل الخوارزميات، من يتحكم بها، ولماذا يظهر محتوى معيّن على حساب آخر. ومتى ما طالبت الحكومات أو المجتمعات بالشفافية، جاءت الردود مموّهة، أو تحجّجت “المنصات” بالحفاظ على “أسرار الابتكار”. التقنية هنا ليست أداة في خدمة المجتمع، بل قلعة محصّنة تفرض خطابها على الجميع.

عصر البيانات

البيانات التي نجمعها، ونشاركها طوعًا على هذه المنصات، لا تبقى مجرد معلومات عابرة، بل تتحوّل إلى مادة خام تُعاد معالجتها وتُستخدم لاحقًا في توجيه السلوك، أو التأثير في الرأي، أو حتى اتخاذ قرارات تتعلق بوظائفنا ومستقبلنا. التقنية هنا تشبه استعمارًا ناعمًا، لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى تطبيقات أنيقة، وواجهات بسيطة، ومساحات تعليقات تثير الضحك وتخدّر العقل.

حين نعي أن التقنية ليست محايدة، وأن أدواتها تُصمَّم وفق أهداف اقتصادية أو سياسية أو أيديولوجية، ندرك ضرورة مساءلتها. ليست المشكلة في التقدّم نفسه، بل في الطريقة التي يُستخدَم بها، وفي الجهات التي تحتكره وتعيد تشكيل العالم عبره. إن طرح سؤال “لمن تعمل التقنية؟” أصبح اليوم سؤالًا أخلاقيًا وسياسيًا واجتماعيًا في آن واحد، لا يمكن تجاهله أو تبسيطه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى