تكنولوجيا

التزييف العميق بالذكاء الاصطناعي.. يخرج عن السيطرة

في بداياته، بدا التزييف العميق أو ما يُعرف بـ “Deepfake” مجرد تجربة تقنية مثيرة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لإنشاء مقاطع فيديو وصور مزيفة تُظهر أشخاصًا حقيقيين، وهم يقولون أو يفعلون ما لم يصدر عنهم. في البداية كان الأمر يُنظر إليه كنوع من الإبداع البرمجي الذي يُستخدم في الترفيه، مثل تركيب وجوه المشاهير على مشاهد سينمائية، أو حتى تحويل مشاهد أفلام كلاسيكية إلى أعمال معاصرة بصريًا.

لكن مع تطور قدرات الذكاء الاصطناعي، وسهولة الوصول إلى أدوات التزييف العميق عبر الإنترنت، بدأت هذه التقنية تخرج عن السيطرة تدريجيًا، وأصبحت تمثل تهديدا حقيقيا للمجتمعات والدول، ليس من باب الخيال، بل من خلال وقائع ملموسة يشهدها العالم اليوم.

 

الاستخدامات غير الأخلاقية تسبق التنظيم

 

في عدد متزايد من الدول، تم تسجيل حوادث استخدام التزييف العميق في تشويه سمعة شخصيات سياسية أو عامة، من خلال تركيب تصريحات كاذبة أو مواقف محرجة لا تمت للحقيقة بصلة. وبما أن هذه الفيديوهات تبدو واقعية للغاية، فإن نفيها لاحقًا لا يكون كافيًا دائمًا لإزالة أثرها في الرأي العام.

الأخطر أن هذه التقنية لم تعد حكرًا على المحترفين أو المؤسسات الكبرى. فبضغطة زر، يمكن لأي شخص يمتلك حاسوبًا عاديًا أن يستخدم أدوات مفتوحة المصدر لإنشاء محتوى مزيف يبدو مقنعًا. لقد أصبحت عملية التزوير البصري أو السمعي سهلة لدرجة أن الحدود بين الواقع والتزييف بدأت تتلاشى أمام المشاهد العادي.

 

عندما تهتز الثقة بالمصادر

 

ما يزيد من خطورة التزييف العميق هو أنه يُقوّض الثقة بالحقائق، فحتى الفيديوهات أو التسجيلات الحقيقية بات الناس يشكّكون في مصداقيتها، معتقدين أنها ربما مزيفة، ما يخلق حالة من الضبابية الإعلامية التي تعرقل قدرة الأفراد على التمييز بين الحقيقة والخداع.

في هذا السياق، يمكن القول إن التزييف العميق لا يهدد فقط الأشخاص الذين يُستخدم ضدهم، بل يهدد مفهوم الحقيقة ذاته، ويقوّض أسس النقاش العام والمساءلة السياسية والقانونية، بل حتى العدالة،إذا استُخدم في تزوير أدلة بصرية أمام المحاكم.

 

تنظيم متأخر ومحدودية الردع

 

رغم إدراك الحكومات والمؤسسات الدولية لخطورة الظاهرة، إلا أن جهود التنظيم لا تزال متأخرة وبطيئة.ففي معظم الدول، لا توجد قوانين واضحة تجرّم استخدام التزييف العميق، إلا في حالات نادرة مثل الابتزاز أو التشهير. وحتى عندما تُوجد قوانين، فإن تطبيقها صعب لأن منشأ المحتوى المزيف غالبًا ما يكون في دول أخرى، أو عبر هويات رقمية وهمية يصعب تعقبها.

أما الشركات التكنولوجية الكبرى، فعلى الرغم من إعلانها المستمر عن جهود لرصد وإزالة المحتوى المزيف، فإن الأدوات التي تمتلكها لا تواكب السرعة التي تتطوّر بها أدوات التزييف.

 

نحو واقع رقمي أكثر التباسا

 

نحن أمام مفارقة تكنولوجية خطيرة: التقنية التي طُورت في الأصل لتحسين جودة الحياة، أصبحت أداة لتقويض الثقة بالحقيقة. صحيح أن الذكاء الاصطناعي في مجالات مثل الرعاية الصحية والتعليم والنقل يشكل ثورة إيجابية، لكن في المقابل، فإن أدواته نفسها تُستخدم اليوم في زعزعة المجتمعات.

إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فقد نصل إلى مرحلة لا يمكن فيها تصديق أي صورة أو تسجيل صوتي أو فيديو دون أدوات تحقق متقدمة. وهذا ما يجعل من الضروري التحرك بسرعة على ثلاثة مستويات: تشريعيا، تكنولوجيا وتوعويًا، قبل أن تصبح الحقيقة نفسها شيئًا من الماضي.

إعداد :ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى