تكنولوجيا

التحول الرقمي الثقافي في الجزائر

من الشفهي إلى الرقمي عبر بوابة التواصل الاجتماعي

يشهد العالم في السنوات الأخيرة تحولا جذريا في البنية الثقافية للمجتمعات، نتيجة التزاوج المتسارع بين الوسائط الرقمية والتفاعلات الاجتماعية، لم تعد الثقافة رهينة الكتب الورقية، أو الندوات الضيقة، أو حتى الإذاعات التقليدية. لقد أصبح التفاعل الثقافي لحظيا، متدفقا، ومرتبطا بمنصات رقمية تتيح لأي فرد أن يكون منتجًا ومؤثرًا ومُتلقيًا في آنٍ واحد.


ضمن هذا المشهد، تقف الجزائر كغيرها من البلدان، أمام مفترق طرق بين ثقافةٍ متجذرة في الشفهي والتقليدي، وتحول رقمي يفرض نفسه بقوة، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت الفضاء الثقافي الأوسع انتشارا بين فئات المجتمع المختلفة، خصوصا الشباب.

الجزائر والرقمنة: ثقافة في طور التحول

التحول الرقمي الثقافي في الجزائر لم يكن خيارًا، بل حتمية، فرضتها ثنائية العولمة الرقمية والحضور المكثف لوسائل التواصل الاجتماعي في الحياة اليومية للمواطن. لقد شهدت الجزائر خلال العقد الأخير بروز جيل رقمي جديد، يتعامل مع الثقافة من منطلقات جديدة: المعلومة السريعة، التفاعل المباشر وتعدد مصادر التأثير.

مثال واضح على هذا التحول هو انتشار المحتوى الثقافي على منصة “يوتيوب”، حيث برزت قنوات شبابية تنقل التراث الشعبي، الحكايات الشفوية، وتحليل النصوص الأدبية الجزائرية بأسلوب معاصر. هناك العديد من القنوات التي نجحت بالفعل في استقطاب جمهور واسع من المهتمين بالقصص الشعبية واللباس التقليدي والأمثال الجزائرية، والمقدمة في قالب بصري جذاب ومبسط.

كذلك، أصبحت المدونات والصفحات الفيسبوكية المخصصة للغة الأمازيغية، التاريخ الوطني، سيرة الشهداء ومنابر معرفية بديلة. يُلاحظ أن هذا الحراك الرقمي مكن كثيرا من الشباب من استعادة هويتهم الثقافية بلغاتهم ولهجاتهم المحلية، بعيدًا عن النمطية التي كانت تفرضها الوسائط الرسمية.

وسائل التواصل الاجتماعي كمساحات للتعبير الثقافي

في الجزائر، لم تَعُد وسائل التواصل الاجتماعي فضاءً للترفيه فقط، بل تحوّلت إلى مختبر حي لإنتاج وتداول الثقافة. فالعديد من الشعراء والكتّاب والمسرحيين وجدوا فيها منفذًا لعرض إبداعاتهم، خاصة في ظل تراجع فرص النشر الورقي وندرة دور العرض الثقافية في بعض المناطق.

الصفحات التي تروج للأدب الشعبي أو تحلل الظواهر الاجتماعية من منظور ثقافي أصبحت تُحقق نسب متابعة قياسية. مثال ذلك، صفحة “يوميات جزائرية”، التي تعرض بطريقة سردية يوميات مواطنين جزائريين من مختلف الولايات، ضمن قصص قصيرة باللهجة المحلية أو الفصحى، حاملة دلالات عميقة حول الهوية والعادات والواقع المعاش.

كما ساهمت “إنستغرام” و”تيك توك” في بروز فنون بصرية جديدة، مثل التصوير الفوتوغرافي التراثي، أو الرقص الفلكلوري بتقنيات تصوير حديثة، ما ساعد في إعادة تقديم الثقافة التقليدية بعيون رقمية جذابة لجيل جديد لم يعش تفاصيلها الأصلية.

رقمنة الذاكرة الوطنية: جهود ومبادرات متباينة

رغم الزخم الرقمي المتولد من وسائل التواصل، لا تزال عملية رقمنة الذاكرة الثقافية والوطنية الجزائرية تمر ببطء. إلا أن هناك مبادرات لافتة في هذا الصدد. على سبيل المثال، أطلقت وزارة الثقافة الجزائرية قبل سنوات منصة إلكترونية لعرض المخطوطات الوطنية، لكن ضعف الترويج والتفاعل معها جعلها محدودة الانتشار.

من جهة أخرى، برزت جهود فردية من باحثين ومهتمين بالتاريخ، قاموا برقمنة أرشيفات محلية ونشرها على قنواتهم، محاولين العمل على توثيق الذاكرة المعمارية للجزائر من خلال صور قديمة وتعليقات تحليلية، تجذب آلاف المتابعين.

هذه المبادرات، وإن كانت متفرقة، تشير إلى وعي يتشكل تدريجيًا بأهمية توثيق الثقافة رقميا، بعيدًا عن الأرشيف الورقي المهدّد بالتلف أو الضياع.

صراع الأصالة والحداثة في البيئة الرقمية

من التحديات الكبرى التي تواجه التحول الثقافي الرقمي في الجزائر، صراع الأصالة والحداثة، إذ إن بعض الأصوات تعتبر أن نقل الثقافة إلى الفضاء الرقمي يُفقدها خصوصيتها، ويجعلها عرضة للاجتزاء أو التبسيط المخل. لكن آخرين يرون أن الثقافة يجب أن تتكيف مع أدوات العصر، وأن التحول الرقمي هو الوسيلة الوحيدة لضمان بقائها وتطورها.

على سبيل المثال، تعرضت بعض الفيديوهات التي توثق طقوس الأعراس التقليدية أو اللباس النسوي الجزائري للانتقاد، إما بحجة “التعري” أو “التشويه”، رغم أنها في جوهرها محاولات لإحياء تراث مهدد بالاندثار. هذا، التوتر بين الحفظ والتجديد، بين الهوية والانفتاح، هو سمة طبيعية لأي انتقال ثقافي، ويعكس حيوية المجتمع أكثر مما يعكس تناقضاته.

خاتمة: نحو ثقافة جزائرية رقمية جامعة

إن التحول الرقمي الثقافي في الجزائر ليس مجرد انتقال من الورقي إلى الرقمي، بل هو تحول في الذهنيات، في أساليب التعبير، وفي فهم معنى الثقافة نفسها. إنه يعيد صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الذاكرة والمستقبل، وبين الهوية والعالم.

ولعل الفرصة اليوم سانحة أمام المؤسسات الثقافية الجزائرية، والباحثين، والمبدعين، لاستثمار هذا الواقع الرقمي المتسارع، عبر تطوير مشاريع رقمية تدمج التراث بالتقنية، وتوظف وسائل التواصل كأدوات لتعليم الثقافة وتداولها وتعزيز قيم الانتماء والانفتاح في آن واحد.

الرقمنة ليست نهاية، بل بداية جديدة لثقافة جزائرية أكثر تعددًا، وأقرب إلى نبض الناس، وأكثر حضورًا في العالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى