
تشهد صناعة الذكاء الاصطناعي تحولا عميقا في أدواتها وأساليبها، ويأتي في مقدمة هذه التحولات بروز مفهوم “البيانات الاصطناعية“، التي باتت اليوم تشكل بديلا متزايد الأهمية عن البيانات الواقعية في تدريب النماذج الذكية.
هذا النوع من البيانات، الذي يُنتج عبر تقنيات حاسوبية متقدمة، يهدف إلى محاكاة البيانات الحقيقية بدرجة عالية من الدقة والواقعية، مما يسمح للأنظمة الذكية بالتعلم دون الحاجة إلى الاعتماد الكامل على المعلومات البشرية أو البيانات الحساسة. ويُنظر إلى البيانات الاصطناعية اليوم كأحد الحلول الواعدة لمشكلات عدة، من بينها محدودية الوصول إلى بيانات كافية، أو ارتفاع تكلفة جمعها، أو الحاجة لحماية الخصوصية، لا سيما في القطاعات التي تتعامل مع معلومات طبية أو مصرفية أو قانونية.
في السابق، كانت كفاءة النماذج الذكية ترتبط ارتباطا وثيقا بجودة البيانات التي تُغذى بها، وكان جمع هذه البيانات عملية طويلة ومكلفة وتخضع لقواعد صارمة من حيث الموافقات والسرية.
أما اليوم، فبات بالإمكان توليد كميات ضخمة من البيانات الاصطناعية التي تُحاكي بشكل دقيق خصائص البيانات الأصلية، سواء من حيث الأرقام أو الأنماط أو التوزيع الإحصائي.
وتُستخدم هذه البيانات في تجريب النماذج وتقييم أدائها، وحتى في تعزيز تنوعها وتحسين قدرتها على التعميم. على سبيل المثال، يمكن إنشاء مجموعة بيانات اصطناعية تحتوي على حالات نادرة يصعب العثور عليها في الواقع، مما يسمح للنموذج بالتعامل معها بكفاءة عند حدوثها.
كما تسمح هذه البيانات بإعادة تكوين سيناريوهات افتراضية بالكامل، مثل قيادة المركبات في ظروف جوية نادرة، أو محاكاة عمليات طبية معقدة، دون الحاجة إلى تعريض البشر لأي مخاطر.
فوائد عملية وتحديات أخلاقية وتقنية
رغم الفوائد الكبيرة التي توفرها البيانات الاصطناعية، فإن استخدامها لا يخلو من التحديات والقيود. فمن جهة، توفر هذه البيانات بديلا آمنا للمؤسسات التي تسعى لحماية خصوصية الأفراد، إذ يمكن استخدامها في تدريب النماذج دون كشف هويات المستخدمين أو تفاصيلهم الدقيقة.
ومن جهة أخرى، تعاني البيانات الاصطناعية أحيانًا من فقدان الواقعية أو التحيز إذا لم تُولد وفق معايير دقيقة ومضبوطة. فعلى سبيل المثال، إذا تم توليد بيانات عن أنماط استهلاك معينة دون مراعاة الفوارق الثقافية أو الاقتصادية، فقد يؤدي ذلك إلى استنتاجات خاطئة أو غير منصفة.
ويثير هذا النوع من البيانات تساؤلات أخلاقية حول من يتحكم في توليدها، وكيف يتم استخدامها، ولصالح من. فبينما تسعى شركات التكنولوجيا إلى الاستفادة منها تجاريًا، تطالب بعض الجهات الرقابية بفرض معايير واضحة لضمان شفافيتها وجودتها وعدم استخدامها في تزييف الواقع أو التلاعب بالمعلومات.
كذلك، هناك قلق من أن استخدام البيانات الاصطناعية بكثافة قد يؤدي إلى نماذج ذكية تعيش في “فقاعة رقمية”، أي أنها تتعلم من بيانات أنشأها الحاسوب، لا من العالم الحقيقي، مما قد يُضعف قدرتها على التعامل مع المواقف الحقيقية التي لم تُحاكَ سابقًا.
مستقبل البحث والتطوير قائم على التوازن
مع ذلك، فإن التوجه العام في الأوساط البحثية والتقنية يشير إلى أن البيانات الاصطناعية لن تحل محل البيانات الواقعية بالكامل، بل ستُستخدم بشكل تكميلي ضمن مزيج متوازن.
هذا المزيج يمكن أن يشكل قاعدة متينة لنماذج أكثر دقة وأقل تحيزًا، خاصة إذا تم دمج البيانات الاصطناعية مع الحقيقية تحت إشراف بشري يضمن التنوع والجودة والعدالة. وتبرز اليوم عدة مبادرات لتطوير أدوات خاصة بتقييم واقعية البيانات الاصطناعية، ومدى قدرتها على تحسين أداء النماذج دون التضحية بالشفافية أو المصداقية.
في المجمل، يمكن القول إن البيانات الاصطناعية أصبحت جزء أساسيًا من البنية التحتية الرقمية الجديدة، ليس فقط في مجال الذكاء الاصطناعي، بل في مجموعة واسعة من التطبيقات، من الصحة والتعليم إلى الطاقة والصناعة.
غير أن نجاح هذا التوجه يعتمد في نهاية المطاف على وضوح الأطر القانونية والتنظيمية، وعلى استعداد الشركات والمؤسسات للالتزام بأعلى المعايير الأخلاقية والتقنية، حتى لا يتحول هذا المورد الواعد إلى أداة تكرّس الانحياز أو تُضعف الثقة في النظم الرقمية.
وبينما لا يزال الجدل قائمًا، إلا أن الحقيقة الواضحة أن مستقبل الذكاء الاصطناعي لن يُكتب إلا على سطور من البيانات، بعضها حقيقي وبعضها الآخر اصطناعي، ولكن يجب أن يكون كلاهما موجّهًا نحو خدمة الإنسان لا استغلاله.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله