بقلم: الأستاذ “الحاج نور الدين أحمد بامون” (ستراسبورغ بفرنسا)
نجم لمع وسطع بريقه وأفل من سماء الحديقة بمتليلي الشعانبة ولاية غرداية جوهرة الواحات بالجنوب الجزائري، وسطع بريقه الأخاذ عاليا، جال وصال داخل وخارج الوطن، بحث ونقش، بصم ورحل، أفل في صمت تاركا وراءه كنوز ثرية وتركة علمية أدبية ثقافية فنية لا تقدر بثمن.
في إطار سلسلة التعريف بشخصيات وقامات الفكر والأدب والمعرفة من كتاب ومؤلفين وفنانين وباحثين، بمتليلي الشعانبة بولاية غرداية جوهرة الواحات خاصة، وبجنوبنا الكبير عامة، لاسيما العصاميون من جيل ريعان الشباب من شقوا طريقهم بأنفسهم، ونقشوا أسماؤهم بأيديهم وبأعمالهم الخالدة المدونة بسجلاتهم المشرفة بأحرف من ذهب، الشاهد حي ليذكر بهم ويحاكي سيرهم للأجيال القادمة. منهم الدكتور العصامي، الأديب، المؤلف، الفنان، الرسام، الخطاط والرحالة الأسطورة الأستاذ “محمد صالح بهاز الدربالي” (حماية)، الذي يعد أحد أهم العناصر الشبانية العصامية قيد حياته، شباب النموذج التي بدأها بالقراءة والمطالعة والبحوث والسفر للتنقيب والتحقيق، لينتهي به المطاف في الكتابة والتأليف.
علاوة على هذا، قد تفوق في أبحاثه خلال سفرياته للدول التي زارها وتعرف على عديد مؤلفاتها وعلى حضارتها التي أنبهر بها انبهارا إيجابيا، وعاد إلى بلده ومسقط رأسه بطموحات غير محدودة وبآفاق واسعة يتطلع لتطبيقها وإثراء الحقل العلمي الأدبي بها، إلا أن الأجل لم يمهله الفرصة لتحقيق ذلك وتجسيده ميدانيا كلية بأرض الواقع وفجأة حلت منيته دون سابق إنذار. كان واحد من أولئك الشباب الصغار في مصف الرجال الكبار، الأدباء المفكرين، الذين تركوا بصماتهم منقوشة غير كاملة، بفضل إشعاعهم الشخصي وحسهم الفردي وعطائهم الذاتي الدافق، بفضل إنتاجهم الغزير الغير المحدد، كان إنسانا بسيطا محبوبا من جميع من عرفه وعاصره، رحب الأفق بين أقرانه، غزير المطالعة والإطلاع، متنوع الثقافة برمتها في شتى المجالات للخير متسارع بالموعظة ناصح ومرشد ودال على الخير.
مــســيــرتـه
لخص الأستاذ “محمد الصالح بهاز” مسيرته الأدبية في كلمة واحدة من شقين بعنوان الإرادة والتحدي مقترنة بالطموح اللامنتهي، وبهذا يكون من خلال هذا العمل الأدبي اللامحدود الذي ضحي بنفسه في كثير من المرات وحرم نفسه من عديد الأشياء من أجل أن يسعد الآخرين، ويبلغ لهم رسالته بكل ما جادت به قريحته من مخيلات ذاتية وتجارب موضوعية ليستفيد منها القراء والمتطلعين لذلك.
وتلخص هذه السيرة في تجربة شاب مهووس بداء الأدب العصامي، شاب فرط في مستقبله ليظهر فيها ما أحس، وما شعر وما قرأ، وما رأى وما سمع وما لا حظ وما توصل إليه لينقله بصدق وأمانة من وجهة نطره للمجتمع للفائدة والاستفادة، خدمة وراحة. وكان يقضي جل وقته نهاره في السعي والعمل على جمع أكبر قدر من المعلومات ليسرع إلى قلمه ودفاتره ليكتب ويدون ما جمعه ورصده حتى لا يذهب هباء منثورا. لقد مثل الفقيد كل شي في حياته وكان مدرسة فكرية متنوعة، متكاملة الأبعاد والزوايا من عدة جوانب، كان رحمه الله موسوعة أدبية شاملة تركت بصماتها المؤثرة في كل مكان، وتركت آثارها العميقة.
الــبــدايــة
ككل شاب مولع متطلع لكل ما يمر أمامه، وتشهاه عيناه وتلمسه يداه وتسمع أذانه لابد من معرفته والاطلاع عليه، وشيئا فشيئا انفجرت مواهبه مع اشتداد الأنامل وتراكم خبرته صار صاحب السيرة والتكوين العصامي أديبا شاعرا وفنانا، انطلاقا من ضرورة ترحيل من الخبرة إلى الاحترافية لفضاءات جديدة محلية ووطنية ودولية، صار لازما أن تتلاقح وتتزاوج وتتمازج هذه الخبرات في صناعة الأديب الدكتور الصاعد لمستقبل زاهر.. الكثير لا يعرف سيرة الفقيد الدكتور “محمد الصالح” والذي كانت حياته تشكل أنموذجا للإصرار والمواجهة والتحدي في شتى الميادين وفي مختلف الأوقات العصيبة التي مر بها ومثالا للشباب الطموح يقتدي به.
نعرج في هاته الومضة بالتعريف بالفقيد والتنقيب عن مناقبه ونفض الغبار على مأثرة التي لا تعد ولا تحصى.
مـولده ونـشـأته
ولد يوم 14 ديسمبر1986 بمدينة متليلي الشعانبة قلعة الثوار، بولاية غرداية، وفرد في عائلة ثورية محافظة لها تاريخ متنوع ومتعدد عريق، نشأ فيها وترعرع بحي الحديقة التاريخي العريق، حي الجهاد والثورات الشعبية حي الأشاوس الفرسان المغاور، الحديقة حاليا الحريقة سابقا والتي سميت نسبة للمحرقة التي حاولت فرنسا القيام بها والقضاء على الأهالي والسكان، انتقاما منهم نظير إيوائهم للمجاهدين وتقديم الدعم والمؤونة والسلاح وما يحتاجونه والسهر على راحتهم وحمايتهم وتسيل تنقلاتهم وتحركاتكم، ونظرا لفظاعة الإسم سميت بالحديقة من طرف الفقيد الوالي الصالح العلامة “سي الحاج أحمد بن بحوص آل سيد الشيخ”، بطلب من أهل الخير منهم صديقه المقرب منه “لحرش الحاج أحميده” رحمهم الله.
تعـلـيـمـه القـرآنـي
ككل أبناء الحي لم يفوت فرصة التعليم القرآني كبقية كل الطلبة، فتعلم بمسجد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالحديقة على يد فضيلة الشيخ (سي قدو) مولاي عبد الله قدور، فكان من الحفظة ومستظهري كتاب الله حرصا وفهما.
دراسـتـه وتكوينه
زاول دراسته التعليمية النظامية في مسقط رأسه من ابتدائية بن خلدون بالحديقة والتعليم المتوسط بإكمالية الحديقة، أما المرحلة الثانوية فكانت بمتقن الشهيد “أحمد بلغيث” بشعاب لعريق وبثانوية الشهيد “الحاج علال بن بيتور”، وكان من المتفوقين دائما، لكنه غادر مقاعد الدراسة وخرج من صف السنة الأولى ثانوي لأسباب وظروف قاهرة منعته من مزاولة دراسته. وكباقي الشباب عصر حياته وعفوان شبابه وعصر التكنولوجيا الحديثة لغة الإعلام الآلي والبرمجة وتطورها اختار عالم الحاسوب، وتكوّن في تخصص عون حجز معلومات وبرمجيات وهي المهنة التي أحبها وعشقها عن قناعة واختيار كونها مفتاح باب العلوم والمعرفة برمتها .
عمله ومورده
ككل شاب اشتد عوده وتأهله للحياة العملية المهنية وبكل حرية وقناعة، اختار طريق القطاع الخاص، كون لا قيد ولا سيطرة، فكان حر طليقا كما ولدته أمه لا يحكمه قانون ولا يأمره آمر ولا يفرض عليه أمر.
إنتاجه الفكري والأدبي
أما في المجال الأدبي، فقد نشر في صحف ومجلات جزائرية وأخرى عربية، أما العمل المؤلف المطبوع الذي تركه والذي مازال قيد الطباعة لم ير النور وهي 04 كتب (السلام والعقلانية – العظة في الهاوية – لعنة الرماد – ضجر الأرق)، وهي عبارة عن مجموعة دراسات، طبعت هنا نسختين عن دار “الصبحي للطباعة” بمتليلي والنسختين المتبقيتين في انتظار الطبع مستقبلا.
تحقيق المخطوطات
تفرغ لتحقيق المخطوطات ودراستها، إذ وفق في تحقيق أكثر من مائتين 200 مخطوط بمكتبة الإسكندرية بمصر مع الكاتب المصري الأستاذ “مختار عبد العليم” والكاتب الأستاذ “جمال البنا”. شغوف بالقراءة والكتابة فكان له عمود بإحدى الصحف المصرية ونظرا لحبه للمطالعة والتهام الكتب طالع أكثر من 3400 كتاب في مختلف العلوم خاصة الفلسفة – التاريخ – الإقتصاد – علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهم، مما جعل أصدقاؤه ومحبيه ومعاصريه يلقبونه بسعادة الدكتور .
مشاركاته بالمعارض
شارك عدة مرات بالمعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة، كما شارك بالمعرض الدولي للكتاب بالقاهرة بمصر الذي لم يفوت فرصته أثناء تواجده بمصر، إضافة إلى مواهبه وما سلف ذكره وفي إطار أبحاثه ودراسته وطموحه للرقي عاليا فكريا وأدبيا قام بعدة سفريات وزيارات للخارج منها ماليزيا – سنغافورة – مصر – روسيا وفرنسا وله لكل منهم قصة وحكاية.
الـشـاعـر الـمـتـذوق
ترويح عن النفس وتفريج وبوح عرج على بحور الشعر، مقتطفا زهرة من بساتينه المتنوعة وجداوله المتفقة المتناثرة على ثناياه، أشعار في مواضيع شتى مختلفة وككل عربي مسلم غيور على دينه وإسلامه وقوميته.
الـعـازف الـمـتـمـرد
تعود العلاقة التي تربط الأستاذ “محمد الصالح بالعود بلا شك إلى السنوات الشباب التي عاشها في البحث عن الذات والتنقيب عن الموهبة الدفينة لصقلها وإخراجها للعلن. فكان يداعب أوتار العود بأنامل مداعبة الفارس لفرسه والعشيق لمعشوقه كل ما حن للشوق، للبوح له بمكوناته وبما يختلج به صدره والذي تعجز أنامله عن نقلها وكتابتها، وهو ما لاحظه مستمعيه ساعة عزفه لتكل الألحان الشجية والنغمات المتتالية بصدى يتردد من هنا ومن هناك، وما زالت منقوشة في ذاكرة معاصريه ولو نطقت الطبيعة باحت بالسر الدفين لكن للمنية أجل وللسر كتمان.
الـفـنـان الـخـطـاط
بتعدد مواهبه وتفجير ينابيعها الفياضة، وولوج عالم الفنون من أوسع أبوابه بعصاميته، انتقل من العزف والنغم والألحان والشعر والكتابة وهروبا لفترة استراحة واسترجاع أنفاس وبوح مشاعر ومحاكاة مع الطبيعة، راحت أنامله تداعب الريشة ودخول عالم الرسم والخط دون دراية، فكانت له صور ولوحات تعبيرية نترككم تكتشفونها وتحدثونها لتحكي لكم مسيرة الرجل ومناقب التي يمكن حصرها في هذه العوجلة.
هذه ومضة من فيض للتعريف بشخصه واسمه وتكريمه نوعا ما، لعل وعسى تصل الرسالة وتبلغ للجميع وينال نصيب من حقه ومقامه رحمه الله. فمهما قلنا وحكينا وكتبنا فلن نوفيه حقه ولو قيد أنملة وجزء ذرة، إذ يصعب علي والحالة هذه أن أختزل سيرته العطرة الحافلة في بضع كلمات، كما لا يمكن احتواء جل فكره وعمله في أسطر، فمناقبه وأثره أوسع من أن تحتويها عشرات المؤلفات. ولكن والحال بل سأشرك الجميع وأترك لهم الأمر لتحمل المسؤولية التي تقع على عاتقنا اليوم قبل الغد جميعا من رجال العلم والتربية والفكر والثقافة في صرح هذه المدينة العريقة التي عودتنا على إحياء هذه المناسبات وعدم تغاضي النظر اليها من جمعيات ونوادي ومراكز وباقي فعاليات أطياف المجتمع برمته.
وهكذا تنهي حياة الفقيد الدكتور “محمد الصالح” في آخر محطة من عمره في عقدها الثالث ونيف، أسأل الله أن أكون قد وفقت في جمع ما تمكنت منه وانتقاء ما يمكن بكل صدق وأمانة بتقديم جزيل الشكر لعائلة الفقيد على الثقة وتشريفي بكتابة سيرته ونقلها للتعريف به والترحم عليه، فان وفقت فبفضل من الله ومن منه وإن أخطأت وقصرت بجهل مني فلا تلوموا واسألوا الله لي التوفيق.
وفـاتـه وجـنـازتـه
توفي يوم 06 أوت 2019 ، ودفن في جو جنائزي بمتليلي الشعانبة عن عمر 33 سنة، والذي كان لوفاته وقع شديد الأثر على نفس جميع أفراد أسرته وأصدقائه.