
في خضم السباق التكنولوجي العالمي، تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيق ثورة صناعية جديدة تقودها الروبوتات المدعمة بالذكاء الاصطناعي، وذلك لمواجهة التحديات المتصاعدة التي تفرضها القوة التصنيعية الصينية.
وفي الوقت الذي تتزايد فيه الحاجة إلى المرونة والسرعة في خطوط الإنتاج، يكشف مشروع بحثي جديد عن تحول جذري في كيفية تدريب الروبوتات وتصنيع المعدات الحساسة، بما في ذلك الطائرات من دون طيار، مما قد يغير وجه الصناعات الدفاعية والمدنية على حد سواء.
تصنيع مدعوم بالذكاء الاصطناعي
تستند التقنية الجديدة إلى ورقة بحثية نشرت في يناير الماضي ضمن “المجلة الدولية للتصنيع المتطرف”، وتطرح نموذجاً مبتكراً للتصنيع الإضافي المعتمد على الذكاء الاصطناعي، والذي يُعرف اختصاراً بـ “AAM“. تكمن أهمية هذه الطريقة في أنها تتجاوز القيود التقليدية لروبوتات المصانع الحالية، التي لطالما عانت من الجمود والاعتماد الكلي على البرمجة المسبقة. فبينما تقوم الروبوتات الحالية بعدد محدود من الحركات الثابتة، فإن المنهج الجديد يمنحها القدرة على التعلم، التكيّف، والتفاعل مع الأخطاء والمواقف غير المتوقعة، ما يفتح آفاقاً واسعة للتطوير الصناعي.
بصمة دولية واهتمام عسكري
يعود الفضل في تطوير هذه التقنية إلى فريق دولي من الباحثين ضم خبراء من جامعة ولاية كاليفورنيا – نورثريدج، والجامعة الوطنية في سنغافورة، ومختبر الدفع النفاث التابع لوكالة ناسا، وجامعة ويسكونسن – ماديسون. ويعكس تنوع هذا الفريق أهمية المشروع على الصعيد العالمي، كما يُظهر مدى اهتمام المؤسسات الأمريكية الكبرى، وعلى رأسها وزارة الدفاع، بالنتائج المحتملة لهذا الابتكار.
وتأمل وزارة الدفاع في اعتماد هذه التقنية لتسريع عملية إنتاج المعدات العسكرية بالقرب من الخطوط الأمامية، ما يقلل الاعتماد على سلاسل الإمداد الطويلة والمهددة بالانقطاع في أوقات الأزمات. وقد دخل المشروع في مراحل متقدمة من التقييم، مع احتمال بدء تنفيذه فعلياً في شهر ماي، وفقاً لتصريحات الباحث المشارك في الدراسة بينجبينج لي.
تصنيع مرن بالكامل من التصميم إلى التنفيذ
من أبرز مميزات هذه التقنية قدرتها على تنفيذ كامل مراحل الإنتاج، بدء من نمذجة التصاميم على الحاسوب، مرورا بمرحلة الجدولة وتحسين العمليات، وصولا إلى الطباعة والتشغيل، وكل ذلك تحت إشراف منظومة روبوتية متعاونة. ولا يقتصر هذا التطور على الاستخدام الأرضي فقط، بل يمتد ليشمل إمكانيات التصنيع في الفضاء، وهو ما يفسر اهتمام وكالة ناسا بتمويل المشروع ودعمه.
دماغ صناعي متعدد الطبقات
تعتمد هذه التقنية على ما يُعرف بـ “دماغ الروبوت الصناعي“، والذي يتكون من أربع طبقات مترابطة: الأولى تُعرف بطبقة المعرفة، وتجمع البيانات من المستشعرات وعمليات التصنيع السابقة، والثانية طبقة الحلول التوليدية التي تستعين بأدوات الذكاء الاصطناعي لاتخاذ القرارات المناسبة، ثم تأتي الطبقة التشغيلية التي تنفذ الأوامر، وأخيرا الطبقة المعرفية التي تسمح للروبوتات بالتفكير والتأمل وتحسين الأداء بمرور الوقت.
ويُشبه هذا النموذج في عمله التفاعل البشري مع النماذج اللغوية الذكية، إذ يبدأ التعلم بشكل بدائي ثم يتحسن مع كثرة التدريب، ما يجعل العلاقة بين الإنسان والآلة أقرب إلى علاقة تدريبية طويلة الأمد تؤدي إلى تطوير مستوى متقدم من “الذكاء الصناعي” القابل للتكرار.
دور الإنسان… من منفذ إلى مشرف
ورغم أن المشروع يسعى إلى تقليل التدخل البشري إلى الحد الأدنى، إلا أن الإنسان سيبقى حاضرا في العملية الصناعية، لا كعامل يدوي، بل كمشرف ومرشد للروبوتات في الحالات المعقدة وغير المتوقعة. وبهذا، يتغير الدور البشري من التشغيل إلى الإشراف، بما يخفف من الأعباء اليدوية، ويمنح الآلات القدرة على التعلم الذاتي وتحسين أدائها.
آفاق عسكرية وتجارية واعدة
في المجال العسكري، تُعد هذه التقنية بمثابة تحول استراتيجي كبير. إذ يُمكن للجندي في ساحة المعركة، وفقاً للرؤية المطروحة، تصوير قطعة مكسورة من معداته، ليقوم النظام الذكي بإعادة تصميمها وطباعتها مباشرة، دون الحاجة إلى إعادة إرسالها إلى الورش البعيدة. وهو ما يُخفف الضغط على الإمدادات، ويمنح الجنود استقلالية لوجستية غير مسبوقة.
وتولي وزارة الدفاع الأمريكية، لا سيما وكالة “داربا”، أهمية متزايدة للتقنيات القادرة على توفير تصنيع مرن وآمن في البيئات المتنازع عليها. وتُعد تقنية “التصنيع بالحلقة المغلقة” التي تعتمد على البيانات الحية والاستشعار المتعدد، خطوة كبيرة نحو هذا الهدف.
تفوق صيني وتحديات قائمة
غير أن هذه الطموحات الأمريكية تواجه عقبة استراتيجية كبرى، تتمثل في التفوق الصيني في سوق المكونات الأساسية للروبوتات، مثل أجهزة الاستشعار والمشغلات. كما تحتكر الصين جزء كبيرا من المواد الخام اللازمة للطباعة والتصنيع، ما يمنحها أفضلية نسبية حتى مع تسارع التطوير التكنولوجي الأمريكي.
وتُدرك واشنطن هذا الخلل البنيوي، ولهذا تم سن قانون رقائق الكمبيوتر والعلوم عام 2022، الذي خصص أكثر من 52 مليار دولار لتوطين صناعة أشباه الموصلات، ما يعكس إدراكاً عميقاً بأن القدرة التصنيعية المحلية هي أساس القوة العسكرية والاقتصادية معاً.
نقص اليد العاملة… نقطة ضعف حاسمة
في المقابل، تعاني الولايات المتحدة من نقص حاد في الأيدي العاملة الماهرة القادرة على إدارة وتشغيل خطوط الإنتاج المتطورة. وقد حذّر عدد من الخبراء من أن سد هذا العجز سيستغرق سنوات، حتى مع الدعم الحكومي. وهنا تُعول أمريكا على الأتمتة والروبوتات كبديل يُمكن أن يُسرّع عملية الإنتاج، ويقلل الحاجة إلى الأيدي العاملة البشرية.
تصنيع المستقبل… من الفكرة إلى المنتج
من الناحية المفاهيمية، ترسم هذه التقنية الجديدة ملامح مستقبل تصنيعي يُترجم فيه التفكير مباشرة إلى منتج ملموس، من خلال أدوات التصميم التوليدي التي تستكشف مساحات واسعة من الحلول الممكنة، والتي قد تغفلها النماذج التقليدية. وبهذا يتحول الابتكار إلى عملية آلية، تُنتج تصاميم أكثر كفاءة، وتُحقق نتائج أسرع بتكاليف أقل.
في ظل هذا التحول التقني الكبير، تُظهر الولايات المتحدة عزمها على استعادة زمام المبادرة الصناعية، باستخدام الروبوتات المدعمة بالذكاء الاصطناعي لتقليص الفجوة مع الصين. وبينما تبقى التحديات قائمة، يلوح في الأفق جيل جديد من التصنيع الذكي، الذي قد يعيد تشكيل الصناعات الدفاعية والمدنية، ويمنح أميركا تفوقاً جديداً في ساحة المنافسة العالمية.