تكنولوجيا

إهمال ما يشاهده طفلك… قد يكون مكلفًا جدا على المدى الطويل

في عصر تتزاحم فيه الشاشات أمام الأطفال، لم تعد مشاهدة البرامج أو المقاطع القصيرة أمرا بسيطا أو عابرا، بل تحوّل إلى تجربة يومية قد تؤثر بعمق على تفكيرهم وسلوكهم، فقد أصبحت منصات الفيديو مصدرا هائلا للمعلومات والمشاهد والتأثيرات البصرية، بعضها يحمل رسائل إيجابية ومفيدة، لكن كثيرا منها يتضمن إيحاءات أو أفكارا لا تناسب أعمارهم أو وعيهم المحدود، وهنا تبرز أهمية أن يكون الوالدان على دراية كاملة بما يستهلكه أبناؤهم من محتوى.

لقد أثبتت دراسات متعددة أن الأطفال في مراحل مبكرة يتأثرون بشكل بالغ بما يشاهدونه، فهم لا يملكون القدرة الكاملة على التمييز بين الخيال والواقع، ولا يستطيعون غالبًا تحليل الرسائل غير المباشرة التي تحملها الصور والكلمات، مما يجعلهم أكثر عرضة لتقليد السلوكيات العنيفة أو تبني أنماط التفكير السلبية، خصوصًا إذا تكررت أمامهم بانتظام دون تفسير أو توجيه، وهذا ما يضع مسؤولية مضاعفة على عاتق أولياء الأمور.

وإذا كان بعض الآباء يعتقد أن ترك الأطفال أمام الشاشات لفترات طويلة، هو وسيلة لتوفير بعض الراحة أو الوقت لإنجاز مهام أخرى، فإنهم لا يدركون أن هذا التخلّي المؤقت قد يكون مكلفًا جدًا على المدى الطويل، فالمحتوى غير المراقب قد يزرع أفكارًا مشوشة أو انطباعات خاطئة، ويؤثر على النمو العاطفي والاجتماعي للأطفال دون أن تظهر الأعراض بشكل فوري، مما يجعل الضرر يتراكم تدريجيًا إلى أن يصبح سلوكًا يصعب تغييره.

 

الأجهزة الذكية صديق غير آمن دائما

تحوّلت الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية إلى جزء لا يتجزأ من حياة الأطفال، بل باتت في بعض البيوت أشبه بلعبة رئيسية يصعب فصل الطفل عنها، ومع أن هذه الأجهزة تتيح فرصا كبيرة للتعلم والتسلية، إلا أنها في الوقت نفسه تحمل الكثير من المخاطر التي قد لا تكون واضحة للوهلة الأولى، ومنها الاستخدام الزائد، الإدمان، التعرّض لمحتوى ضار أو التواصل مع غرباء، وكلها تحديات تتطلب يقظة حقيقية من الوالدين.

لا ينبغي النظر إلى الهاتف على أنه وسيلة ترفيه بريئة، بل يجب التعامل معه باعتباره بوابة مفتوحة على عالم واسع لا يمكن حصره أو التنبؤ بكل ما فيه، فالطفل قد يبدأ بمشاهدة مقطع تعليمي قصير، لكنه قد يجد نفسه بعد دقائق يشاهد محتوى غريب أو عنيف أو غير مناسب، بسبب طريقة اقتراح الفيديوهات أو الروابط المتداخلة، ومن هنا تأتي أهمية أن يكون الجهاز مراقبًا ومحدد الاستخدام بحسب العمر والاحتياج.

من المؤسف أن كثيرًا من الأطفال يقضون ساعات طويلة يوميًا في تصفح مقاطع لا تضيف شيئًا إلى معارفهم، بل قد تزرع فيهم حب المظاهر الفارغة أو المقارنات الاجتماعية المؤذية، خاصة تلك التي تعرّفهم على أساليب حياة لا تشبه واقعهم، مما قد يؤدي إلى شعورهم بالنقص أو التوتر أو الرغبة في تقليد ما يرونه بأي وسيلة، حتى لو كان ذلك على حساب القيم أو الصحة النفسية.

 

التربية الحديثة تتطلب مشاركة رقمية مسؤولة

لم يعد من المجدي اليوم منع الطفل من استخدام الأجهزة الذكية بشكل تام، فذلك قد يعزله عن محيطه ويضعف من قدراته الرقمية التي أصبحت مطلوبة في مراحل دراسته وتفاعله الاجتماعي، لكن الحل لا يكمن في المنع الكامل، بل في المشاركة الواعية والتوجيه المستمر، بحيث يُدرّب الطفل على حسن الاستخدام، ويُرافق في مراحل اختياره للمحتوى، ويتعلّم كيف يفرّق بين المفيد والمشوّش.

يُمكن للوالدين مثلًا تخصيص أوقات محددة لمشاهدة البرامج، أو اختيار تطبيقات مناسبة تعزّز من المهارات الذهنية أو تساهم في تنمية الخيال واللغة، كما يجب عليهم أن يناقشوا مع الطفل ما شاهده، ويطرحوا عليه أسئلة تساعده على التفكير النقدي، فلا يكون فقط متلقّيًا سلبيًا، بل مشاركًا في الفهم والتحليل، وهذا ما يحوّل الشاشة من وسيلة سلبية إلى أداة تعليمية موجّهة.

ومن المهم أن يكون الوالدان قدوة في استخدام الهواتف، فلا يُعقل أن يطلبا من الطفل تقليص وقت الاستخدام، وهما يمضيان معظم يومهما أمام الشاشة دون انقطاع، فالتربية السليمة تبدأ بالمثال الحي، ويجب أن يرى الطفل سلوكًا متزنًا من والديه، سواء في استخدام الوقت أو في طريقة التفاعل مع المحتوى، لأن الطفل يقلّد قبل أن يستوعب، وينفّذ قبل أن يناقش.

كما أن الحوار العائلي المستمر حول استخدام الأجهزة، يُعتبر من أهم أسس التربية الرقمية الناجحة، حيث يمنح الطفل شعورًا بالثقة والانتماء، ويخفّف من لجوئه إلى الأجهزة كوسيلة للهروب أو التعويض، ويُشعره بأن هناك من يستمع له ويوجّهه دون أن يفرض عليه، مما يخلق بيئة أسرية أكثر توازنًا ووعيًا بالتحديات التي يفرضها العصر الحديث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى