تكنولوجيا

أطفال الهواتف… أثر التعلق المبكر على النمو العقلي والسلوكي

لم تعد الطفولة كما كانت قبل عقدين من الزمن. لم تعد بداية اليوم تبدأ بنداء أم، ولا تنتهي بحكاية جدّة، بل صارت تبدأ بإضاءة شاشة صغيرة، وتنتهي برنين إشعارات لا تتوقف. آلاف الأطفال اليوم يفتحون أعينهم على لوح رقمي يُسلّمهم من يد الأهل إلى عالم افتراضي مزدحم. لقد حلّ الجهاز محلّ الحضن، وأصبحت الشاشة وسيلة تهدئة، ترفيه، وحتى تربية. لكن، بأي ثمن؟

 

التعلّق المبكر

في سنوات التكوين الأولى، يحتاج دماغ الطفل إلى محفزات واقعية: وجوه، أصوات، حركة، تفاعل مباشر. حين يتم استبدال هذه العناصر بشاشة صامتة، يتشوه مسار النمو العصبي. تشير دراسات متزايدة إلى أن التعرض المبكر للهواتف يساهم في تغيّر طريقة بناء الروابط العصبية، ويُقلّل من قدرة الطفل على التركيز والاستجابة الاجتماعية. ولأن الهاتف لا يُمانع، ولا يُعاقب، ولا يُصحح، يُصبح صديقًا مثاليًا لعقل صغير يبحث عن الاستجابة السريعة والمكافأة الفورية.

 

اللغة… في طريقها إلى الذبول

من زاوية لغوية، يتأخر الطفل الذي يقضي ساعات طويلة أمام الشاشة في تطوير مفرداته وتراكيبه. فالشاشة لا تنتظر سؤاله، ولا تُصغي إلى جوابه، ولا تُكرر له الكلمة مرارًا بحنان. يخرج من تجربته الرقمية متفرّجًا صامتًا، لا مشاركًا متفاعلًا. وفي سنّ يُفترض أن تكون فيها الكلمات لعبةً يومية بينه وبين محيطه، يُصبح الصمت هو اللغة الغالبة.

 

الغضب السريع

هل لاحظت أن الأطفال الذين يقضون وقتًا طويلاً أمام الشاشات يغضبون بسرعة؟ يبكون بلا سبب؟ يصرخون حين يُطلب منهم التوقف؟ هذا ليس مجرّد دلال أو عناد. بل هو نتيجة لتغيّر آلية التفاعل النفسي لديهم. في العالم الرقمي، كل شيء يحدث فورًا. لا انتظار، لا صبر. وهذا النمط يتسلل إلى حياتهم اليومية. فيتعامل الطفل مع كل تأخير على أنه ظلم، ومع كل رفض على أنه كارثة، ومع كل حدّ على أنه عقوبة.

 

الانعزال الاجتماعي

اللعب في الساحات، تسلّق الأشجار، رسم الأشكال على الأرض، كلها تحوّلت إلى ذكريات جيلٍ مضى. أطفال اليوم يفضلون الجلوس فرادى، يحدّقون في هواتفهم أو أجهزتهم اللوحية، دون تبادل للنظرات أو الكلمات أو الضحكات. هذا الانسحاب من التفاعل الإنساني المباشر يؤدي مع الوقت إلى ضعف في المهارات الاجتماعية، وتراجع في قدرة الطفل على فهم الإشارات غير اللفظية، وتكوين علاقات صحية، والتعبير عن نفسه في الواقع الحقيقي.

 

العقل المُستَهلَك

يتعامل الجهاز الذكي مع عقل الطفل كما يتعامل البائع مع المستهلك: يعطيه ما يُرضيه لا ما يُنضجه. الفيديوهات السريعة، الألوان الصاخبة، الموسيقى الحادة، كلّها تُغرق الطفل في كمّ هائل من المحفزات التي تفوق قدرة عقله النامي على المعالجة. النتيجة؟ ضعف التركيز، وتشتّت الانتباه، وصعوبة في الانتقال إلى أنشطة أكثر هدوءًا مثل القراءة أو الرسم أو الدراسة. يُصبح العقل مشروطًا بالإثارة المستمرة، وكل ما هو بطيء أو بسيط يُعتبر مملًا أو غير جدير بالاهتمام.

 

الوالدان بين الراحة والندم

الكثير من الآباء لا يمنحون أطفالهم الهاتف بدافع الإهمال، بل هربًا من ضغط الحياة وتسارعها. الهاتف يُهدئ الطفل، يُشغله، يمنح الأهل لحظة هدوء. لكن هذه الراحة اللحظية كثيرًا ما تتحوّل إلى ندم طويل الأمد. فكلما تعلّق الطفل بالجهاز، ابتعد عن والديه. وكلما سكت الآن، صرخ لاحقًا بلغة لا يفهمها أحد: سلوك مضطرب، أو تأخّر دراسي، أو عنف غير مبرر. حينها يُدرك الأهل أن الهدوء الذي اشتروه ذات يوم، كان باهظ الثمن.

 

من المسؤول؟ الأهل أم التكنولوجيا؟

من السهل إلقاء اللوم على التطبيقات، أو المطورين، أو الشركات الرقمية. لكن الحقيقة أن الهاتف لا يزحف إلى يد الطفل وحده. نحن من نمنحه له. نحن من نفتح له الأبواب. نحن من نُبرّر، ونُسهّل، ونُطبع هذا السلوك. المسألة ليست في “المنع” بقدر ما هي في “الضبط”. أن نكون حاضرين أكثر، أن نراقب المحتوى، نحدد الوقت، ونعوّض الشاشة بتجربة واقعية ثرية.

 

نحو طفولة تُرى بالعين لا تُضبط بالشحن

الطفولة ليست مرحلة ترفيه عابرة، بل حجر الأساس لكل ما سيأتي لاحقًا. التكنولوجيا ليست عدوًا، ولكن استخدامها الخاطئ يُحوّلها إلى أداة خطيرة. ما يحتاجه الطفل ليس “هاتفًا ذكيًا”، بل “حضنًا ذكيًا” يفهم احتياجاته، يواكب عصره دون أن يُفرّط في جذوره. فالشاشة لا تمنح الدفء، ولا تعلّم الحب، ولا تُربّي الضمير. لنمنح أبناءنا وقتًا حقيقيًا، ولنرسم معهم ذاكرة مليئة بالقصص، لا بالشحنات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى