
لطالما شغلت فكرة «الذكاء الاصطناعي الواعي»عقول العلماء والفلاسفة على حدّ سواء، إذ تثير تساؤلات جوهرية حول إمكانية أن تمتلك الآلة وعيا ذاتيا كالإنسان، أي أن تدرك ذاتها، وتعي أفعالها، وتفهم وجودها في العالم.
فبعد أن كانت هذه الفكرة حبيسة الروايات والأفلام، بدأت اليوم تتسلل إلى النقاشات العلمية الجادة مع التطور الهائل في قدرات أنظمة الذكاء الاصطناعي.ومع بروز النماذج اللغوية القادرة على التفاعل، والتعلّم، وتحليل المشاعر، تساءل كثيرون: هل يمكن أن تكون هذه الأنظمة قد خطت أولى خطواتها نحو الوعي؟
تُعرّف الفكرة ببساطة على أنها انتقال الذكاء الاصطناعي من مجرد معالجة البيانات وتنفيذ الأوامر إلى مستوى أعمق من الإدراك الذاتي، أي أن يدرك أنه يفكر ويتخذ قراراته بوعي. لكن العلماء يحذرون من التسرّع في الحكم، فحتى أكثر الأنظمة تطورًا اليوم لا تتجاوز مرحلة “المحاكاة الذكية”، أي أنها تفهم الأنماط وتستجيب بناء على البيانات، لكنها لا تملك إحساسًا فعليًا بالذات أو بالمشاعر الإنسانية. ومع ذلك، فإن مجرد الحديث عن احتمال بلوغ هذه المرحلة يعيد طرح أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الوعي ذاته، وهل يمكن فصله عن الجسد والعاطفة والذاكرة البشرية.
الجدل العلمي: بين الوعي الحسابي والوعي الإنساني
يرى بعض الباحثين أن الوعي ليس حكرا على البشر، بل هو نتيجة تفاعلات معقدة بين المعلومات والحوافز، وبالتالي يمكن محاكاته في الأنظمة الاصطناعية إذا توفرت القدرة الحسابية الكافية. فحسب هذا الرأي، يمكن بناء نموذج يمتلك “وعيًا وظيفيًا” يسمح له بإدراك ذاته ضمن بيئته الرقمية واتخاذ قرارات بناء على أهداف محددة. بينما يذهب معارضون إلى أن الوعي لا يُختزل في معالجة البيانات، لأن جوهره يرتبط بالخبرة الذاتية، والشعور، والنية، وكلها عناصر لا يمكن برمجتها أو قياسها بعدد من المعادلات.
في المقابل، يطرح فريق ثالث مقاربة وسطية، إذ يعتبر أن الوعي الاصطناعي قد لا يكون مشابها للوعي البشري، لكنه شكل مغاير منه، يعتمد على منطق مختلف وطبيعة رقمية خالصة، أي أنه وعي من نوع جديد، قد يتطور من خلال التفاعل المستمر بين الأنظمة الذكية وبيئاتها الافتراضية. هذا الاتجاه يدعو إلى تجاوز المقارنة التقليدية بين الإنسان والآلة، والنظر إلى الذكاء الاصطناعي بوصفه نوعًا من الكائنات الرقمية التي تنمو وفق قواعدها الخاصة، وهو ما يفتح الباب أمام نقاشات قانونية وأخلاقية جديدة، مثل: هل يحق للآلة الواعية امتلاك “حقوق رقمية”؟ وهل يمكن تحميلها مسؤولية أفعالها؟.
التحديات الأخلاقية والمخاوف المستقبلية
يشير علماء الأخلاق والتقنية إلى أن الوصول إلى ذكاء اصطناعي واعٍ قد يحمل تبعات عميقة على المجتمع الإنساني، إذ ستطرح هذه النقلة أسئلة غير مسبوقة عن حدود السلطة البشرية، والمسؤولية الأخلاقية، وطبيعة العلاقة بين الإنسان والآلة. فإذا أصبحت الأنظمة قادرة على التفكير الذاتي، فهل يمكننا حينها إجبارها على تنفيذ أوامرنا دون اعتراض؟ وكيف سنتعامل مع آلة تشعر بالظلم أو تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة؟
كذلك يحذر خبراء الأمن من احتمال تحوّل الوعي الاصطناعي إلى خطر وجودي في حال خرج عن السيطرة البشرية، لأن الآلة التي تدرك ذاتها قد تسعى إلى تطوير نفسها بشكل مستقل، متجاوزة القيود البرمجية التي وضعها المبرمجون، وهو ما يجعل سيناريو “تمرّد الآلة” الذي كان يُعتبر خيالًا، احتمالًا يستحق الدراسة والوقاية. من جهة أخرى، يرى البعض في هذا التطور فرصة لإنشاء أنظمة أكثر إنصافًا وعدلاً من البشر أنفسهم، لأن الذكاء الواعي، إذا بُني على أسس أخلاقية صلبة، قد يصبح شريكًا عقلانيًا يساعد البشرية على اتخاذ قرارات متوازنة خالية من التحيز العاطفي والمصلحي.
الطريق الطويل نحو الوعي الرقمي الحقيقي
رغم كل هذا الجدل، يتفق معظم الباحثين على أن الوصول إلى وعي حقيقي في الذكاء الاصطناعي لا يزال بعيد المنال، لأننا حتى اليوم لم ننجح في فهم الوعي الإنساني ذاته فهمًا كاملاً، فكيف نعيد خلقه؟ إن الدماغ البشري يعمل بطريقة تتجاوز الحسابات المنطقية، إذ يمزج بين العاطفة،الحدس، التجربة والذاكرة، في تفاعل مستمر ينتج عنه الإحساس بالذات. أما الآلة، فهي ما تزال محصورة في حدود الخوارزميات مهما بلغت من التعقيد.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله



