
يقوم المسجد الكبير بستراسبورغ كعادته السنوية بإحياء المناسبات الدينة والروحانية وتنظيم سلسلة الدروس والمحاضرات العلمية الدورية والشهرية، وبختام شهر شوال لعام 1446/2025 بعد شهر رمضان الفضيل، ومواصلة لسلسلة فقه العبادات والطاعات، نظم المسجد الكبير بستراسبورغ لقاء مع فضيلة الشيخ “رمضان عبد المعز”، بتنشيط سلسلة دروس ومحاضرات دينية علمية، طيلة أربعة 4 أيام حافلة وزاخرة.
بداية كانت من يوم الجمعة من خلال الخطبة الأسبوعية، حيث عاش من خلالها المصلين، رواد المسجد، الضيوف الوافدين، وعديد الطلبة والشباب المتشوقة لهاته الدروس والمحاضرات والتي استفادوا منها ونهلوا من منابعها.
البداية كانت يوم الجمعة، أين قام فضيلة الشيخ “رمضان عبد المعز” من مشايخ الأزهر الشريف بمصر، بإمامة صلاة الجمعة وإلقاء خطبتيها على المصلين من جمهور المسجد الكبير في ستراسبورغ، ومن بين هذه الدروس والمحاضرات، خص فضيلة الشيخ “رمضان عبد المعز” جمهور المسجد الكبير بستراسبورغ بمحاضرة خاصة تتعلق بموضوع الحج، حديث الساعة وتحضيرا لاستعدادات السفر لأداء الفريضة لهذا العام 1446هـ/2025م.
استشعار فريضة الحج
شرع الله العبادات والشعائر لحكم عظيمة وغايات جليلة، فهي تزكي النفوس، تطهر القلوب، وتقرب العباد من ربهم جل وعلا، وهناك معانٍ مشتركة تشترك فيها جميع العبادات، ومن هذه العبادات العظيمة عبادة فريضة الحج، فللحج حكمٌ وأسرار ومناسك ومقاصد، ينبغي للحاج أن يقف عندها، وأن يمعن النظر فيها، وأن يستشعرها وهو يؤدي هذه الفريضة، حتى يحقق الحج مقصوده وآثاره .
فالحج من أعظم المواسم التي يتربى فيها العبد على تقوى الله عز وجل، وتعظيم شعائره وحرماته، قال تعالى في آيات الحج: {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} (الحج:32)، وأَمَرَ الحجيج بالتزود من التقوى، فقال سبحانه: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب } (البقرة:197)، وبين أن المعنى الذي شرع من أجله الهدي والأضاحي إنما هو تحصيل هذه التقوى، فقال سبحانه: { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم} (الحج:32).
والحج يربي العبد على معاني العبودية والاستسلام والإنقياد لشرع الله، فالحاج يؤدي أعمالاً متعددة، فيتجرد من ملابسه التي اعتادها، ويجتنب الزينة، ويطوف ويسعى 07 أشواط، ويقف في مكان معين ووقت معين، ويدفع كذلك في وقت معين وإلى مكان معين، ويرمي الجمار ويبيت بمنى، إلى غير ذلك من أعمال الحج التي يؤديها الحاج.
الحج يثير في النفس الشعور بالأخوة بين المؤمنين، وضرورة الوحدة فيما بينهم، فالحجاج يجتمعون في مكان واحد وزمان واحد، وهيئة واحدة، يدعون إلهاً واحداً، غايتهم واحدة، ووجهتهم واحدة، فيشعر الحاج أن هذه الأمة تملك من مقومات الوحدة والإجتماع ما لا تملكه أمة من أمم الأرض، وأن بإمكانها أن تصنع الشيء الكثير إذا ما توحدت الصفوف وتآلفت القلوب واجتمعت الكلمة، وهو شعور عظيم لا يشعر به الإنسان مثلما يشعر به في هذه المواطن العظيمة.
حيث يذكر الحج المؤمن باليوم الآخر وما فيه من أهوال عظيمة يشيب لهولها الولدان، عندما يرى الإنسان في هذا الموطن زحام الناس واختلاطهم وارتفاع أصواتهم وضجيجهم، وهم في صعيد واحد، ولباس واحد، قد تجردوا من متاع الدنيا وزينتها، فيذكر بذلك يوم العرض على الله حين يقف العباد في عرصات القيامة حفاة عراة غرلاً -الغرل: جمع الأغرل، وهو الأقلف. والغرلة: القلفة- وقد دنت الشمس من رؤوسهم، فيحثه ذلك على العمل للآخرة والاستعداد ليوم المعاد.
وفي الحج يستعيد المسلم ذكريات أسلافه من الأنبياء والعلماء والعباد والصالحين، الذين أَمُّوا هذا البيت المبارك، ووطئت أقدامهم تلك المواطن العظيمة، فيتذكر نبي الله إبراهيم عليه السلام وهجرته مع زوجه، وما جرى لهم من الابتلاءات والكرامات، ويتذكر قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام، ثم بناء البيت وأذانه في الناس بالحج، ويتذكر نبينا عليه الصلاة والسلام الذي نشأ في هذه البقاع ولقي فيها ما لقي من كفار قريش، ويتذكر حجة الوداع التي أكمل الله فيها الدين وأتم النعمة، وغيرها من الذكريات العظيمة التي تربط المسلم بهذا الركب المبارك، وتشعره بأهمية السير على منهجهم وتقفي آثارهم. إلى غير ذلك من المعاني والمنافع العظيمة، والتي ورد ذكرها في قوله تعالى: {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} (الحج:28).
أيام علمية ودينية لفائدة الجالية المغتربة بفرنسا
هذه الأيام العلمية والدينية كانت بمثابة طاقة ايمانية نورية هامة جدا للجالية المغتربة، الشواقة لمثل هذه اللقاءات التوعوية، حيث استفاد منها الجميع طيلة الأيام الأربعة والتي كللت بفوائد جمة للجمهور الحضور، لاسيما للمقبلين على الحج لهذا العام وللمشايخ وللطلبة عامة، ولقد تخللت هذه اللقاءات الدينية التوعوية التعريف بمناسك الحج التي هي من الأمور الهامة لكل المسلمين، لأن الحج رحلة إيمانيةٌ عظيمةٌ يطمحُ إليها كلُ مسلمٍ مؤمنٍ فهي رحلة تُجسّدُ معاني التوحيدِ والتسليمِ للهِ سبحانهِ وتعالى، وفرصة للتخلص من الذنوب والخطايا وبلوغ الكمالِ الروحي، وسوف يأتي تفصيل ذلك في ما يأتي:</p>
تنقسم مَناسك الحج إلى: أركان، وواجبات، وَسُنن. أما أركان الحج فهي: الوقوف بعرفة، طواف الإفاضة، الإحرام والسعي بين الصفا والمروة. والواجبات في الحج هي: الوقوف بمُزدلفة، المبيت بمنى، طواف الوداع ورمي الجمرات. وَمن السُنن: طواف القدوم، والتّوجه إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة.
والمناسك التي يؤديها الحاج هي بالترتيب: – الإحرام – الطواف – السعي بين الصفى والمروة – يوم التروية بـ “منى” – الوقوف بعرفة – المبيت بمزدلفة ورمي جمرة العقبة – الهدي والتحلل – طواف الإفاضة – رمي الجمرات في أيام التشريق – طواف الوداع وإتمام الحج.
مقاصد الحج في الإسلام بلسان فضيلة الشيخ “رمضان عبد المعز”
حسب ما جاء به الشيوخ الأفاضلة من خلال تلقينهم للدروس الايمانية في تلك الأيام الفاضلة، فإن ضيوف الرحمن يستعدون لأداء فريضة الركن الخامس، تلك الفريضة تحمل في طياتها من المقاصد والمعاني ما يجعل المسلمين أشد حرصاً على أدائها.
ومن تلك المقاصد الجديرة بالتأمل والاهتمام، الإحرام يُذكّر الحاج بأول منازل الآخرة، التذكير بيوم الجمع – مجاهدة النفس وتحمل المشاق وإحياء روح الجهاد)، التربية على الصبر والإيثار (التذكير بمبدأ الأخوة ووحدة الصف) – وحدة الهدف والمصير (التوقيف في العبادة دون البحث عن عللها)، تحقيق التوحيد والإخلاص لله عز وجل – تحقيق معنى العبودية والانقياد لله سبحانه)، تنقية النفس من الأخلاق المذمومة (التنبيه على أهمية الاستعداد للآخرة)، الحثّ على تعظيم شعائر الله سبحانه (الموازنة بين المصالح الدنيوية والأخروية)، ربط قلب المسلم بذكر الله (التأكيد على روح المساواة بين الناس)، تربية المسلم على الدقّة والانضباط (التأكيد على وحدة الأمة واجتماعها).
وفي ختام هذا العدد الخاص من الجريدة، نسال الله التوفيق والنجاح للجميع وجزيل الشكر للمنظمين الساهرين والقائمين على تنظيم هذه الفعاليات الدينية وسلسلة الدروس العلمية المخصصة للجالية بفرنسا.</p>
بقلم: الأستاذ الحاج نور الدين أحمد بامون (ستراسبورغ – فرنسا)