
في قاعات مركز MTI بوهران، حيث تتوزع الطاولات بين شاشات مضيئة وقطع إلكترونية وأفكار لا تعرف السكون، تجلس فتاة في مقتبل العمر تحمل على كتفيها حلمًا أكبر من سنواتها، هي “بن منصور مرام”، البالغة من العمر 16سنة، والتي تستعد هذه الأيام لاجتياز شهادة البكالوريا، لكنها في الوقت ذاته تخوض مسارًا آخر لا يقل أهمية: مسارها في عالم الذكاء الاصطناعي. قصة “مرام” ليست مجرد تجربة تلميذة التحقت بمعهد، بل هي صورة عن كيف يتحول الخيال إلى واقع حين يجد البيئة المناسبة.
البداية.. حين فتح الخيال نافذة على المستقبل
لم يكن حب “مرام” للتكنولوجيا وليد الصدفة. فمنذ صغرها، كانت شغوفة بمشاهدة أفلام الخيال العلمي والذكاء الاصطناعي، تلك الأعمال لم تكن بالنسبة لها مجرد متعة بصرية أو قصص مشوقة، بل كانت منبع إلهام عميق جعلها تتخيل نفسها يومًا ما تصنع روبوتات تتحرك وتفكر وتتكلم مثل البشر.
من بين تلك الأفلام، يبقى فيلم “ميغان” علامة فارقة في وجدانها بطلة الفيلم، دمية روبوتية ذكية مزودة بقدرات خارقة للتعلم والتفاعل، تركت أثرًا قويًا في مخيلة مرام. تقول: “ما ألهمني في ميغان ليس فقط شكلها ولا حركاتها، بل قدرتها على اتخاذ قرارات ومسؤوليتها تجاه الأطفال. شعرت أن الروبوت يمكن أن يكون أكثر من آلة، يمكن أن يصبح شريكًا في الحياة.”
هذا الخيال ظل يرافقها حتى كبرت، إلى أن فتحت لها الحياة نافذة جديدة حين عرفت أسرتها عن معهد MTI.
اكتشاف المدرسة.. من شاشة الإنترنت إلى الواقع
قصة الانضمام للمعهد بدأت، عندما سمعت والدة “مرام” عنه من صديقتها عبر الإنترنت، لم تتردد الأم في اقتراح الفكرة على ابنتها، التي رأت فيها فرصة العمر. ومن هنا بدأت الرحلة: تسجيل رسمي، مقاعد جديدة، وأجواء مختلفة تمامًا عما اعتدته في المدرسة التقليدية. تقول “مرام”: “شعرت من اللحظة الأولى أنني دخلت مكانًا يفتح لي الأبواب. هنا أستطيع أن أجرب، أن أخطئ، وأن أعيد المحاولة حتى أصل”.
مدرسة تلهم وتدعم
ما ميز تجربة “مرام” مع MTI، هو الجو الداعم الذي وجدت نفسها فيه، فالفريق والأستاذة لم يكتفوا بتلقين المعارف، بل ساعدوها على تخطي الصعوبات، وأكدوا لها أن الفشل جزء من التعلم، “كانوا دائمًا يخبروننا أن النتائج لا تأتي بسرعة، وأن الصبر هو كلمة السر، هذا ما جعلني أتعلم كيف أواجه العقبات دون أن أفقد الأمل.”
مع مرور الوقت، اكتسبت “مرام” ثقة كبيرة بنفسها، خاصة عبر العروض التقديمية التي كانت تقدمها أمام زملائها وأساتذتها. بالنسبة لها، كان الوقوف أمام الجمهور خطوة صعبة، لكنها تحولت إلى قوة دفعتها لتقول: “اليوم أستطيع مواجهة العالم بقوة أكبر.”
ماذا تعلمت “مرام”؟
في عامها الأول داخل المعهد، جمعت “مرام” حصيلة معرفية متنوعة، تعلمت استخدام منصة MTI لصناعة التطبيقات المتطورة، وصناعة المواقع الإلكترونية، وتصميم الألعاب، إضافة إلى العروض التقديمية الحديثة، غير أن قلبها ظل متعلقًا أكثر بعالم الإلكترونيك. تقول: “أكثر ما أحبه هو الإلكترونيات، أحب أن أرى الأشياء تتحرك أمامي، أن أضع فكرة في دارة كهربائية وأشاهدها تنبض بالحياة، هذا يجعلني أشعر أنني أقترب خطوة بخطوة من حلمي في صناعة روبوتات حقيقية”.
التحدي الأكبر.. المسابقة الوطنية
أبرز محطة في مسار “مرام” كانت مشاركتها في المسابقة الوطنية بالجزائر العاصمة، مشروعها كان طموحًا: “روبوت يساعد المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة على التنقل وتفادي العقبات”. في البداية، صممت فكرتها على أساس أن يدخل المستخدم وجهته، فيقوده الروبوت إليها. لكن أثناء العمل، واجهت مشكلات تقنية حالت دون تنفيذ المشروع بالشكل المخطط له. لم تستسلم، بل قررت تعديل الفكرة بالكامل لتصبح آلية تعتمد على الإحساس بالحركة وتفادي العوائق.
3 أشهر من الجهد المتواصل انتهت بإنجاز مهم، روبوت عملي نال إعجاب لجنة التحكيم، وتوجها بالمرتبة الأولى على المستوى سن الـ 16 . بالنسبة لـ”مرام”، لم يكن الفوز هو الهدف الأكبر، بل كانت التجربة نفسها هي التي منحتها القوة، “تعلمت أن التغيير ليس هزيمة، بل قد يكون الطريق للوصول إلى نتيجة أفضل”.
مرام الإنسانة.. بين التكنولوجيا والفنون
بعيدًا عن الأجهزة والبرمجيات، مرام تحمل شخصية متعددة الاهتمامات، تحب الرسم والتلوين، وتمارس النحت والفخار، إضافة إلى حبها الكبير للرياضة، خاصة السباحة والجري. هذا التنوع، كما تقول، يساعدها على التوازن ويمنحها طاقة أكبر للعودة دومًا إلى مجالها المفضل: الذكاء الاصطناعي.
أحلام واسعة وآفاق مستقبلية
حين تتحدث “مرام” عن المستقبل، يلمع الحماس في عينيها، هي لا ترى نفسها في مهنة تقليدية، بل في مختبرات الذكاء الاصطناعي، باحثة وعالمة تبتكر حلولًا تغير حياة الناس. تقول بثقة: “أريد أن أصبح عالمة في مجال الذكاء الاصطناعي، هذا ليس مجرد حلم، بل هدف سأعمل لتحقيقه مهما كانت الصعوبات”.
وترى أن التكنولوجيا ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لصناعة مجتمع أفضل. بالنسبة لها، الروبوتات التي تتحرك مثل البشر ليست مجرد تحدٍ تقني، بل تجسيد لقدرة الإنسان على تحويل الخيال إلى واقع، دون أن ينسى دائمًا أن إبداع الخالق يظل فوق كل إبداع.
قصة “مرام بن منصور”، الطالبة التي ألهمتها أفلام الخيال العلمي، تبرز كيف يمكن لشغف صغير أن يتطور ليصبح مشروع حياة. من شاشة سينما إلى قاعات MTI، ومن فكرة في خيال طفلة إلى روبوت حقيقي في مسابقة وطنية، تكتب مرام فصلا جديدا في حكاية الجيل الجزائري الصاعد. تجربة تقول بوضوح: حين يجد الخيال بيئة ملائمة ودعما حقيقيا، فإنه يتحول إلى إنجازات تُحاكي المستقبل.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله