لك سيدتي

“ملاك بوحارة”… العصامية التي زاوجت بين الهندسة الطبية والرسم

“ملاك بوحارة”، من مواليد 1998 بوهران، نجحت في اجتياز عتبة شهادة البكالوريا سنة 2016، تخصص علوم تجريبية من ثانوية “أبو بكر بلقايد” بميلينيوم، التحقت بالجامعة وتحصلت على شهادة الماستر في “الهندسة الطبية” من جامعة “محمد بوضياف” بـ”إيسطو” سنة 2021.

كانت مسيرتها التعليمية والحياتية عادية جدا، مثل أترابها، كل تركيزها كان موجه لتحقيق نجاحات علمية، بيد أن فترة اختيار التخصص الجامعي بعد حصولها على البكالوريا، كان نقطة إضاءة جديدة في حياة “ملاك”، حيث اكتشفت “ملَكة الرسم”.

 

حققت ما عجزت عنه والدتها واستلهمت ما تركه والدها

ولأن الأولياء يرون أحلامهم في أبنائهم، فقد كانت “ملاك” التي جاءت أولى إخوتها (3 بنات وولد)، هي رمز النجاح في عيني والدتها، التي كرست كل جهودها من أجل تحقيق نتائج علمية جيدة، تسمح لها بالفوز في شهادة البكالوريا، بعدما كانت هي قد فشلت في اجتيازها سابقا.

حيث حرصت والدتها على توفير كل الظروف الضرورية لأولادها من أجل تحصيل دراسي، يسمح لهم بتحقيق مستقبل مهني ومستوى علمي يفتح آفاقا جديدة في عالم العلم والتطور، لاسيما وأن الوقت الحالي لا مكان فيه لمن يفتقد لسلاح العلم.

بحصول “ملاك” على شهادة البكالوريا، فتحت أبواب الأحلام ومشاهد نجاحاتها الممكنة مستقبلا، وقد غلب حلم “طبيبة مختصة في جراحة الأسنان”، لكن الاختيار كان غير موفق، وقد أصيبت بإحباط شديد، لتبسط كل الأوراق، لاسيما البيضاء منها على الطاولة من أجل اختيار تخصص آخر يسمح لها بدخول الجامعة وولوج عالم الشغل.

وهي تفكر في الاختيار ونادمة لأنها لم تضع الخطة “ب”، لتعويضها في حال فشل الخطة الأساسية، كانت تحمل القلم وتخط على الأوراق أشكالا وتفرغ شحناتها السلبية وفكرها سارح في عالم التيهان، لتكتشف أنها رسمت أشكالا تستدعي التأمل، وأنها خطوطا تحمل تعابير فنية، تستحق قليلا من التركيز والتعديل.

اكتشاف “ملاك” لموهبة الرسم لم يكن جديدا عليها، فقد كان والدها يشرح لهم المسائل ومختلف القضايا عن طريق الرسم، وهي طريقة جيدة حسبها، فقد كانت تعمل على تسهيل عملية الفهم وتمنحهم فرصة رؤية الأمور من زوايا مختلفة، إضافة إلى أن عمها هو الآخر كان رساما، ما يعني أنها ورثت جينات الرسم عن عائلتها، إنما كانت تحتاج إلى من يشجعها على اكتشافها، وهو ما حققه فشلها في تحقيق اختيارها الأول لولوج الجامعة.

 

الرسم تنفيس ومواقع التواصل الاجتماعي تشجيع

انتقلت الريشة من مؤنس للطالبة “ملاك” إلى ملاذ لقضاء أوقات الفراغ، والتعبير عن مشاعر وأحاسيس تختلجها ومواقف تعيشها.

حيث كانت وفاة جدتها في 2020، وهي الأقرب إليها ارتباطا روحيا، نقطة تحول جديد في عالم الرسم، باعتمادها على الرسم على الأسود باستعمال اللون الأبيض، وبعدها رحيل عمتها في 2021، للتعبير عن مشاعرها السلبية بطريقة إيجابية، من خلال الأبيض على الأسود الذي يرمز للأمل. وبوجود العالم الافتراضي، الذي به مواقع التواصل الاجتماعي، التي تخلق جسورا لبناء العلاقات وإبداء الآراء والأفكار، مما جعلها تقاسم متابعيها عبر هذه المواقع لوحاتها، التي لاقت تشجيعا وقبولا واسعين، منحا دفعا وجرعة تشجيع لـ”ملاك” التي أضحت تهتم لما يقال لها عن لوحاتها وتحاول العمل أكثر على تحسين طريقتها، خاصة وأنها تعتمد على النمط “الواقعي”.

 

من المواقع إلى الواقع… خطوة نحو إثبات الذات

 

عرض “ملاك” للوحاتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، منحها الفرصة أكثر لتعرف الجمهور عليها، حيث تواصلت معها عضو من جمعية “ناس ثقافة” فرع جمعية “ناس الخير”، من أجل المشاركة في معرض نظمته بالمركز الثقافي بـ”شالام”، إحياء لشهر مكافحة مرض السرطان في 2021.

وهي المناسبة التي دفعت الفنانة “ملاك” إلى الشروع في البحث للإلمام بفكرة الموضوع، بالاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة تطبيق “الانستغرام” الذي يعتمد على الصور أكثر، لتستقر على رسمة خاصة لراقصة بالي روسية الجنسية تسمي نفسها “الراقصة الصلعاء”، وهي ضحية لمرض السرطان، حيث كانت في العشرينات حين اكتشفت هذا المرض، تضع قناعا يغطي جزء من وجهها ورأسها على شكل بجعة.

اللوحة التي أخذت 3 أيام لتجهز، كانت مفاجأة للجمهور الذي حضر المعرض، رغم أنها أول مشاركة لها رفقة 3 فنانين معروفين، وقد كانت على خلفية بيضاء، الذين ركزوا على سر اختيار الألوان لتجسيد مريضة من بلد يبعد أميالا وبحورا ونقل مسيرتها في محاربة هذا الداء الخبيث، وما لذلك من تأثير إيجابي، عبر نقل المشاعر الإيجابية لتحمل القوة ومواصلة التحدي في محاربته وعدم الاستسلام للمرض أيا كان نوعه وتواجهه العراقيل من أجل مواصلة الحياة بشكل طبيعي.

3 رسامين، رويت القصة كما وجدتها للمشاركين، أثرت في الحاضرين وبدأوا في طرح الأسئلة حول كيفية الرسم وأثارت انتباههم، في الألوان كثيرة أو خلفية بيضاء، قليل على سوداء أحيانا. ثم جاءت الفرصة ثانية لتعرض لوحاتها في مشاركة ثقافية بمتحف زبانة في 10 نوفمبر 2021، بمجموع 8 لوحات تجمع الطابعين أبيض على أسود وأسود على أبيض، بمواضيع متنوعة، وقد كانت تجربة جميلة بأول عرض حر، كما كان فرصة لمقابلة جمهور متنوع سمح لها بالتواصل ومناقشة رؤيتهم ورؤيتها الفنية والتعرف عل فنانين آخرين.

إلى جانب التحفيز والتشجيع الذي تلقته من الحضور، وهو ما جعلها تهتم أكثر بهذه الموهبة والبحث عن ما يساعد على تطويرها، لتأتي فرصة ذهبية في جويلية 2021، من خلال تظاهرة الألعاب المتوسطية، التي نظمت مسابقة وطنية حول أحسن جدارية على مستوى واجهة البحر، التي شاركت فيها “ملاك”، واختارت رموز وهران مع شعار الألعاب المتوسطية، تجمع بين وهران في الماضي والحاضر، تضم حلبة الثيران ملتصقة بالملعب الجديد “مولود هادفي”، وعلى الجانب الأسد يزأر وأمواج المتوسط، عبر جدارية مقاسها 2على 1,4 متر، سمحت لها بترجمة أفكارها على مساحة أكبر، وقد كانت أول لمسة بالألوان “أكليريك”.

كما كان لزميل الدراسة “عصام بلكدروسي”، دورا بالغا في تحقيق أمنيتها بدخول المسرح الجهوي بمشاركة خاصة، حيث شاركت بلوحات مميزة إحياء لذكرى اغتيال الفنان الكبير، القامة المسرحية “عبد القادر علولة”، ببهو المسرح الجهوي “عبد القادر علولة”، وقد رسمت لوحة فنية فريدة جمعت بين قامتين فنيتين عاصمية ووهرانية، للفنانين “عبد القادر علولة” من وهران والعملاق “رويشد” من العاصمة، حيث استلهمت الفكرة من فيلم جمعهما، لتجسد لقطتين منه لهما، وكأنهما يتقابلان فعلا، وقد كانت لوحة مميزة جدا، حيث منحت كهدية من طرف مدير المسرح الحالي إلى فنان كبير في مجال الغناء إنه “عبد القادر شاعو” خلال حضوره إلى وهران، وهو ما اعتبرته “ملاك” أرقى تكريم تحظى به.

 

من الألوان المتموجة إلى عالم المخطوطات… “كور” المرشد

شغف “ملاك” بالألوان والرسومات، وعشقها للحروف العربية وتشكلها المتنوع، جعلها تتجه إلى التعمق أكثر في هذا النوع من الرسومات (المخطوطات)، لتصل إلى سيد الحروف في الجزائر والعالم العربي الفنان القدير “نورالدين كور”.

حيث تشجعت وراسلته في الخاص عبر حسابه الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي، وتندهش بتفاعله الإيجابي معها وتواضعه الكبير، وهو يشجعها ويعلمها أنه سبق وأعجب بلوحاتها عبر الفضاء الافتراضي. وقد كان لها خير ناصح وهي تحاول التوجه إلى التخطيط، عبر إرشاداتها ونصائحه. وقد بدأت في التخطيط والتلاعب بالحروف وتموجها، لتصل إلى مرحلة التحكم في هذا النوع من الرسم الذي يتطلب دقة وتركيز ومعرفة بحجم الحرف وزاوية تحويره عن مساره.

 

إدراج “الفن الرقمي” في عالم الريشة… حلم في طريق التجسيد

ولأن العصر الحالي أصبح عالما رقميا، لا مكان فيه للأمور الكلاسيكية وحدها، فقد اكتشفت “ملاك” أن الفن التشكيلي أيضا يشهد تطورا، بعدما اقتحم الذكاء الاصطناعي عالمه، وأصبح يزاحمه.

وفي هذا الإطار، بدأت “ملاك” في شق طريق البحث في محاولة منها لاستغلال “الفن الرقمي” في الفن التشكيلي، عبر محاولة شرح أفكارها والعمل على استغلال طريقة استنباطها من طرف الذكاء الاصطناعي وعالم الرقميات، لتدمجها بألوانها على لوحاتها الخاصة، حتى تكون أكثر فعالية وترجمة لعلاقة الفرد وعالم الآلة، رغم اقتناعها أن الرسم الذي يستشف مشاعر راسمه لا يؤثر على متلقيه (البشر)، عكس اللوحة التي يرسمها الفنان، لأنه يترجم أحاسيسا ويعبر عن مواقف ويخط ألوانا في لحظات معينة، تسمح بالمرور تلقائيا لمن يشاهدها ويدقق في تفاصيلها.

وقد أكدت “ملاك” أن الآلة لن تعوض الإنسان في التعبير عن المشاعر التي يستحيل أن تخلقها لأنها غير محملة بها أصلا ولا وجود لها في تركيبتها، ويكفي أنها من صنع البشر أنفسهم، حتى أن تفكيرها محدود جدا، وهي معبأة بما أملاه عليها الفرد وتجسد تخميناته لا أقل ولا أكثر. غير أن هذا لم يمنعها من الإقرار بأنها تركز على استعمال التكنولوجيا الحديثة في تحضير مسودة أعمالها، عبر أخذها تطبيق تعديل الصورة وتحويلها لمسودة رسم

 

الريشة… سر النجاح في الإقبال على الهندسة البيوطبية بشغف

بعد توقف عن الرسم لفترة تفوق العام، عادت “ملاك” عقب ولوجها عالم الشغل، كمهندسة في الهندسة البيوطبية، بإحدى شركات التجهيزات الطبية في 2024، عادت من جديد لحمل القلم وإحياء الألوان التي تخلت عنها لفترة، لأنها وجدت فيها منقذها ومساعدها في عملها الجديد.

فقد عادت المهندسة لتحمل ريشة الفنانة التشكيلية، لرسم التجهيزات الطبية، واعتماد الرسومات لشرح أفكارها لفريق العمل وتسهيل عملية تفكيك الرموز وتركيب التجهيزات، إلى جانب توضيح القياسات ومطابقتها ورفعها بدقة من أجل التحقق من مناسبتها وخضوعها للقياسات المطلوبة. لتؤثر مرحلة الدراسة على الرسم، فالهندسة تتطلب مجموعة من التقنيات، كالمنظور، القياسات…

كما تحول الرسم عند “ملاك”، إلى طريقة لتغطية التشوهات التي تظهر على الجدران، عن طريق تعديلها بتلوين تلك المساحة برسم جميل، لتخرج في لوحة فنية جميلة، بما يشبه التمويه.

 

ورشة لدعم الفنانين المبتدئين ومتحف للوحات سفر حول العالم… الحلم المؤجل

وبحديثها عن أحلامها، لم تتردد “ملاك بوحارة” بالبوح بسرها لجريدة “البديـل”، بأن كل حلمها هو توفير ورشة خاصة لمساعدة ودعم الفنانين المبتدئين على صقل موهبتهم.

كما أنها ترغب في رسم لوحة لكل منطقة من هذا العالم تزورها، عبر رحلاتها الاستكشافية التي مازالت لم تبدأ بعد، غير أن أحلامها دعم لها في تحقيق رسومات والغوص في عالم الفن التشكيلي والبحث عن عمالقته، لاسيما الاطلاع على لوحات فنانين كبار مثل “فان غوغ”، “ليلة النجوم”، “كلود مونيه”، “مايكا انليزي”، فنانين هولنديين، نمساويين وفرنسيين، خاصة وأن منبع الرسم في نظرها إيطالي ونمساوي، إضافة إلى رغبتها في اكتشاف متاحف الرسم حول العالم. إلى جانب عشقها للبحر الذي تراه أفضل متحدث معها، من خلال أمواجه المتلاطمة وهدوئه الراقي وهيجانه المباغت، إلى جانب حلمها بالمشاركة في معارض تشكيلية دولية.

وفي كلمتها الأخيرة، قالت “ملاك”: “الرسم من وجدني كان في نقطة حيرة وانطلق بمسيرة لم أحضر لها ووجدت نفسي في طريق لم أخطط له، لقد أصبح أسلوب حياة (عملي حياتي اليومية …)”.

أعدته: ميمي قلان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى