
يتقدّم الذكاء الاصطناعي بوتيرة غير مسبوقة، تدفع العالم نحو مرحلة جديدة من التحول العميق، إذ لم يعد حضوره مقتصرا على التطبيقات التقنية، بل أصبح قوة مؤثرة في الاقتصاد وسوق العمل وبنية المجتمعات. ومع أن هذه التقنيات تُقدَّم بوصفها محركات للنمو، فإن الوقائع تكشف عن آثار جانبية لا تقل أهمية عن فوائدها، بل قد تكون أكثر تأثيرا في المستقبل القريب.
قوة رقمية مركزة وخلل خوارزمي يتوسع
تكشف بيانات السنوات الأخيرة، أن القوة الرقمية العالمية باتت متركزة في يد عدد محدود من الدول والمؤسسات التي تسيطر على القدرة الحاسوبية والبيانات والشرائح المتقدمة، مما يجعل بقية الدول والمجتمعات في موقع تابع. وتجمع هذه القوى كميات هائلة من المعلومات تتجاوز عشرات آلاف التريليونات من وحدات البيانات سنويا، وهو ما يمنحها قدرة استثنائية على توجيه السلوك المجتمعي والتحكم بمسارات التطور التقني.
لكن المشكلة لا تتوقف عند التركز، إذ تتسرب التحيزات إلى قلب الخوارزميات ذاتها. فقد أظهرت الدراسات أن نماذج التعرف على الوجوه قد تصل نسبة الخطأ فيها إلى أكثر من الثلث لبعض الفئات، وأن أنظمة التوظيف تستبعد طلبات من المرشحين دون مبرر مهني، بينما تخطئ الأنظمة المالية في تقييم المتقدمين بسبب اعتمادها على بيانات ناقصة. الأخطر أن معظم المؤسسات لا تستطيع تفسير كيفية اتخاذ الخوارزمية لقرارها مما يجعل الخلل غير مرئي ويمنحه فرصة للتحول إلى نمط دائم.
تغييرات جذرية في سوق العمل وتهديد لدورة الاستهلاك
تعيد تقنيات الذكاء الاصطناعي تشكيل سوق العمل العالمي بطريقة تشبه ما حدث في الثورة الصناعية، لكن بوتيرة أسرع بكثير. فالوظائف الروتينية والكتابية والتشغيلية تواجه انحسارا واسعا، فيما تتعرض قطاعات كاملة مثل الخدمات والنقل والتجزئة والإعلام إلى نسب عالية من الاستبدال بواسطة الأتمتة. وتشير التقديرات إلى احتمال فقدان مئات الملايين من الوظائف خلال سنوات قليلة، ما يهدد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي على حد سواء.
ومع فقدان الوظائف تتعرض دورة الاستهلاك لصدمة مباشرة، إذ تُظهر البيانات أن الأسر تخفض إنفاقها بنسبة تصل إلى النصف عند فقدان الدخل، وهو ما يهدد الاقتصادات التي يعتمد ناتجها المحلي على الاستهلاك بدرجة كبيرة. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي الذي يُسوّق اليوم باعتباره قوة للنمو قد يتحول إلى عامل يضرب الطلب ويقيد حركة الأسواق ويضعف إنتاجية القطاعات التقليدية.
في الوقت نفسه يتوسع اقتصاد المراقبة الذي يعتمد على جمع مئات النقاط من البيانات عن كل مستخدم يوميا، مما يرفع عدد السجلات المكشوفة عالميا ويزيد من قدرة الشركات على توقع السلوك والتأثير فيه.
موجة تزييف ومخاطر أمنية وفراغ تنظيمي
ترافق انتشار الذكاء الاصطناعي مع طفرة هائلة في تزييف المحتوى، إذ ارتفع عدد المقاطع المزيفة إلى ملايين سنويا، وصارت تقنيات تقليد الصوت والصورة أكثر دقة من قدرة الإنسان على كشفها. وقد واجهت مؤسسات عديدة محاولات انتحال بصري وصوتي، بينما تزايدت عمليات الاحتيال المرتبطة بهذه التقنيات في المجالات المالية والرقمية.
ويوازي ذلك نمو كبير في الهجمات الإلكترونية المؤتمتة التي تعتمد على خوارزميات قادرة على تحليل الثغرات وتنفيذ الاختراقات بسرعة تفوق قدرة الدفاعات التقليدية، في حين ترتفع عمليات الاحتيال في العملات الرقمية بشكل حاد.
وتتعمق المشكلات بسبب الفراغ التشريعي، إذ لا تمتلك أغلبية الدول أطرًا شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، ولا تخضع الشركات لرقابة كافية على حجم البيانات التي تجمعها أو طريقة استخدامها، مما يجعل المجال مفتوحا أمام إساءة الاستخدام والتضليل وانتهاك الخصوصية.
وفي ظل هذه التحولات، تتعرض المجتمعات لضغوط واسعة نتيجة فقدان الدخول وتراجع الاستهلاك وانتشار التزييف وانعدام الثقة العامة، بينما تتقدم الجيوش نحو استخدام تقنيات قتالية تعتمد على القرار الآلي ما يرفع احتمالات أخطاء غير مقصودة وصراعات يصعب التحكم بها.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله



