
في عصر تتسابق فيه الدول نحو التحول الرقمي الشامل. لم تعد السيطرة على الأرض ولا الثروات الطبيعية هي المؤشر الوحيد على قوة الدول. بل أصبحت البيانات هي الثروة الحقيقية التي تحدد ميزان القوى ” سيادة البيانات والرقمنة “. إذ تملك الدول التي تتحكم في بيانات مواطنيها القدرة على اتخاذ قرارات أدق. وتوجيه سياساتها بكفاءة أعلى. بل وتمكّنها من منافسة الكيانات العملاقة التي لطالما احتكرت القرار في عالم المال والتكنولوجيا.
سيادة البيانات والرقمنة
وبالتالي، أصبحت مفاهيم مثل الأمن السيبراني وحماية الخصوصية. تعكس عمق السيادة الوطنية. ففي الوقت الذي تقدم فيه الدول الكبرى خدمات تكنولوجية لمليارات المستخدمين.
فإنها في ذات الوقت تسحب ملايين البيانات في كل لحظة. وتخزنها وتستثمرها وفق رؤاها الخاصة، الأمر الذي يثير تساؤلات أخلاقية وسياسية حول مدى حرية الأفراد. واستقلالية الدول في عالم تحكمه الخوارزميات والنماذج الذكية.
ولمواجهة ذلك، تتخذ بعض الدول إجراءات صارمة لحماية سيادتها الرقمية. من خلال تشريعات تحد من حركة البيانات إلى خارج الحدود، بل وتلزم الشركات الأجنبية بتخزين بيانات المواطنين محليًا.
ومع ذلك. تبقى هذه الخطوات غير كافية، خاصة في مواجهة النفوذ العابر للحدود الذي تملكه الشركات التكنولوجية الكبرى، والتي تستطيع عبر تطبيقاتها المنتشرة أن تدخل إلى تفاصيل الحياة اليومية للناس، وتتحكم بشكل غير مباشر في اختياراتهم وسلوكهم.
واللافت أن الدول النامية، والتي غالبًا ما تكون مستخدمة للتكنولوجيا لا منتجة لها.تجد نفسها رهينة لشركات أجنبية تجمع بيانات سكانها وتستفيد منها اقتصاديًا، دون أن تعود بعائد يُذكر على المجتمعات المحلية.
وبالتالي يشبه هذا الواقع استعمارًا جديدًا يعتمد على المعلومات بدل الجيوش، وعلى النفوذ الرقمي بدل الهيمنة السياسية.
وعليه. يصبح السؤال الجوهري هنا: هل تستطيع الدول فرض سيادتها على بياناتها في عالم باتت فيه الحدود الإلكترونية أكثر تعقيدًا من الحدود الجغرافية.؟ أم أن التبعية التقنية ستعيد إنتاج التبعية الاقتصادية. وتجعل من الاستقلال الرقمي حلمًا صعب المنال؟
سيادة البيانات و الرقمنة بين التشفير والتجسس
في ظل ارتفاع وتيرة الهجمات الإلكترونية وتعدد أساليب التجسس الرقمي. لم تعد مسألة حماية البيانات تقتصر على الخصوصية الشخصية. بل أصبحت مسألة أمن قومي بامتياز.
إذ إن اختراق منظومات البيانات يمكن أن يؤدي إلى شلل قطاعات حيوية. وتعطيل خدمات حساسة، بل وقد يصل إلى التأثير على قرارات سيادية تتعلق بالأمن والسياسة العامة.
وعلى الرغم من أن التقنيات الحديثة للتشفير وتجزئة البيانات أسهمت في تعزيز الحماية الرقمية. إلا أنها ليست كافية في وجه الهجمات المنظمة والمدعومة أحيانًا من دول وجهات تمتلك قدرات هائلة.
إذ يكمن التحدي الأكبر ليس في حماية البيانات من الأفراد أو القراصنة العشوائيين، بل من الجهات التي تستهدف معلومات الدول ومواطنيها لأغراض استخباراتية أو اقتصادية.
وبالتالي، عندما تصبح البيانات سلعة تباع وتشترى، تتحول الخصوصية إلى وهم. وتصبح الحكومات مطالبة بإيجاد توازن دقيق بين فتح المجال للتكنولوجيا، وبين الحفاظ على أمن الدولة والمواطنين.
وتبرز هنا معادلة صعبة في ظل الضغط الشعبي للاستفادة من التطبيقات والخدمات الرقمية. والتساهل أحيانًا في مسألة الموافقة على شروط الاستخدام، دون إدراك لما تعنيه تلك الموافقة من تنازل ضمني عن السيطرة على المعلومات الشخصية.
وفي هذا الإطار، باتت معظم التطبيقات تطلب صلاحيات واسعة تتجاوز الهدف الأساسي منها. فعلى سبيل المثال، تطبيق بسيط لتحرير الصور قد يطلب الوصول إلى الموقع والميكروفون وجهات الاتصال.
وهي بيانات يمكن استخدامها لاحقًا لأغراض تجارية أو تجسسية، في غياب تشريعات صارمة ومراقبة حقيقية للجهات التي تدير هذه الأنظمة.
وهنا يبرز دور المجتمع المدني والإعلام، إذ لا يكفي أن تضع الحكومات قوانين لحماية البيانات، بل يجب أيضًا أن يكون هناك وعي جماعي بخطورة ترك البيانات عرضة للاستخدام العشوائي أو غير الأخلاقي. فالبيانات هي مرآة المجتمع، والتفريط فيها هو تفريط في مستقبله.
التحول نحو اقتصاد البيانات المحلي
ولمواجهة هذه التحديات، تسعى بعض الدول إلى بناء اقتصاد بيانات محلي أي سيادة البيانات و الرقمنة ، يعتمد على منصات وطنية وتطبيقات مطورة داخليًا، بحيث تبقى البيانات داخل الحدود، وتُستثمر لصالح المجتمع. وهذا التوجه يتطلب إرادة سياسية، واستثمارًا حقيقيًا في البحث العلمي والتعليم الرقمي، إضافة إلى خلق بيئة تشجع على الابتكار وتحمي حقوق المستخدمين.
ومن المهم التأكيد على أن التحول نحو اقتصاد البيانات المحلي لا يعني الانغلاق أو الانعزال، بل يعني تأسيس شراكات متوازنة، تحفظ حق الدولة في التحكم ببياناتها.
دون التفريط في فرص التعاون الدولي. فالعالم الرقمي ليس مكانًا للمنافسة فقط، بل أيضًا للتكامل والتفاهم المشترك، شرط أن يكون ذلك قائمًا على احترام السيادة الوطنية، وعدم استغلال الفجوة التقنية لفرض الهيمنة أو الابتزاز.
ولذلك فإن بناء قواعد بيانات وطنية قوية، وتدريب كوادر بشرية مؤهلة، هو حجر الأساس في أي مشروع للسيادة الرقمية..
فكلما زادت قدرة الدولة على إنتاج البيانات وتحليلها، كلما زادت قدرتها على اتخاذ قرارات مستقلة، ومنافسة الدول الأخرى في مجال الذكاء الاصطناعي والحوكمة الرقمية، بل وأيضًا خلق فرص عمل جديدة في مجالات واعدة كتحليل البيانات وتصميم الخوارزميات.
وفي النهاية، يجب أن ندرك أن البيانات ليست أرقاما مجردة، بل هي تعبير حي عن حياة الإنسان، ومجتمعه، وسلوكياته، وطموحاته، وأفكاره. ومن هنا فإن حمايتها ليست ترفًا تشريعيًا، بل هي ضرورة وجودية، تمس جوهر الأمن القومي، وترسم ملامح المستقبل الذي نريده. فإن كنا نريد مستقبلًا مستقلًا، عادلًا، وآمنًا، فلا بد أن تبدأ رحلتنا من السيادة على البيانات.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله