
سببت حرائق الغابات التي شهدتها الجزائر في جويلية 2021 عبر عدة ولايات في البلاد، وخاصة ولاية تيزي وزو، في وقوع عشرات الخسائر البشرية فضلاً عن أضرار مادية لا حصر لها، وحتى الآن لم تتم الحصيلة النهائية للخسائر المادية، على الرغم من التدابير الاستثنائية التي اتخذتها الدولة فضلاً عن التدفق الهائل للتضامن من جميع الجزائريين إنه من الصعب على الأقاليم المتضررة وسكانها أن تتعافى في أجل قريب، وفعلا قد يستغرق التعافي عدة أشهر إن لم تكن سنوات.
هذا هو الحال بالنسبة لجميع السكان المتضررين من الكوارث الطبيعية، مهما كان سببها، لقد تم اتخاذ مبادرات هنا وهناك للرعاية النفسية وهذا شيء ممتاز للسكان والأفراد الذين بالنسبة للبعض فقدوا كل شيء بما في ذلك أحبائهم.
السيدة ناتالي روكايليو، عالمة النفس التي شاركت بشكل خاص في متابعة اضطرابات ما بعد الصدمة المرتبطة بالكوارث الطبيعية أبت إلا أن تجيبنا على أسئلتنا من خلال الإستجواب التالي..
البديل: السيدة روكايليو، أشكرك على موافقتك بمنحنا هذه المقابلة بصفتك أخصائية نفسانية شاركت بشكل خاص في مرافقة الضحايا الذين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة المرتبطة بالكوارث الطبيعية.
قبل أن نصل إلى الأسئلة المتعلقة بالموضوع ذاته، نوّد أن نطلب منك تقديم نفسك بإيجاز لقرائنا؟
ناتالي روكايليو: أنا خبيرة متخصصة في العلوم النفسانية منذ أكثر من 20 عامًا، تكمن اختصاصاتي في معالجة الصدمات النفسية من بينهم تلك الناتجة عن الكوارث الطبيعية وكذا المتعلقة بالهجمات الجماعية.
لقد أسست العديد من المصالح المتخصصة في المرافقة النفسية والاجتماعية وكذا مراكز لدعم الضحايا في فرنسا وحول العالم وهذا من خلال أساليب مبتكرة وفعالة، ما يهمني حقًا هو تطوير مؤسسات تتكيف مع الخصوصيات الإقليمية وكذلك تطوير مجالات بحوث من أجل تحسين مرافقة الصدمات النفسية لدى الصغار والكبار.
هذا ما اقوم به في إطار عملي على مستوى شركتي الخاصة و المتخصصة في التكوين والدراسات، أعيش عملي بمثابة مغامرة رائعة والتزام بالإنسانية.
البديل: شهدت الجزائر حرائق غابات في جويلية الماضي تسببت في وقوع ضحايا وأضرار مادية جسيمة، ما هو إذن مدى أهمية الرعاية النفسية العاجلة؟
ناتالي روكايليو: لأن هذه صدمات بمثابة اختراقات نفسية كبرى لا باستطاعة الانسان التحكم فيها، إنها أحداث جاءت فجأة لتدمر حياتهم و تعرضهم لخطر الموت وهذا في عقر ديارهم ومحيطهم الخاص، أي في الأماكن اللذين من المفروض أن يشعروا فيها بالحماية الطبيعية. انها بالنسبة لهم لحالة كارثية و مؤلمة للغاية وخاصة بالنسبة للأطفال الذين ليس لديهم فقط سيطرة على العالم ولكنهم يتأثرون أيضًا في منازلهم وفي غرفهم.
البديل: بشكل ملموس، كيف نتدخل؟
ناتالي روكايليو: حقيقة أن الحرائق التي عرفتها الجزائر كانت بمثابة كارثة وطنية بمجرد عدد الأموات والجرحى وكذا المنكوبين، وعليه فبالنسبة للعائلات المعينة وبالنسبة للجرحى فإن إنشاء وحدات دعم نفسي يعني المساهمة لتعزيز صمود هؤلاء السكان والأقاليم، أي التغلب على الصدمة والقبول في مشروع تجديد الحياة، أما بالنسبة للسلطات العامة يعني ذلك أيضًا وضع جميع آليات الوقاية والمكافحة حتى لا يعيد التاريخ نفسه.
من الضروري أيضا إقامة خلايا جوارية للسكان الذين تضرروا من الحرائق ومكثوا في منازلهم، هذا من جهة، ومن جهة اخرى إقامة خلايا مركزية للرعاية العلاجية طويلة الأمد نالنسبة للضحايا أو عائلات الضحايا، كلما كانت الرعاية أكثر شمولاً (طبية ونفسية وقانونية واقتصادية واجتماعية وبيئية) كلما زاد عدد الأشخاص الذين سيتمكنون من التغلب على الصدمة والمضي قدمًا.
في غياب مرافقة سيكولوجية رفيعة المستوى، غالبًا ما يكون مستقبل المتضررين مظلما، الضحايا الذين لا يتم الاعتراف بهم كضحايا لا يستطيعون التغلب على الحالة النفسية وعلية سوف تستغرق المناطق المتضررة وقتًا أطول للتعافي، الضحية في حاجة ماسة للسماع إليها والإعتراف بصفتها كضحية، هذه هي الحالة النفسية التي من شأنها أن تحدد مسار مستقبل الناس والأقاليم المتضررة.
إن الوسائل التي توفرها السلطات العمومية اليوم هي الوسائل الممكنة للغد. كلما تخطى الشخص الصدمة إلا وعاش بشكل أفضل، وهذا لا يعني أن الصدمة أو الحاذة تمحى، هذا يعني أن تقوية النفس تنشئ قوى فردية وجامعية التي بدورها تتغلب عن آثار المعاناة والشعور بالضعف.
ولكل هذا نستطيع القول ان الخلايا النفسية تساهم بقوة في وقف آثار الصدمات النفسية وهذا من خلال الاستماع التشخيصي الشامل لمعرفة ما إذا كان هناك أي تناقضات او شعور بالذنب او ذهول مما يؤدي إلى تشخيص الصورة الكاملة للصدمة النفسية، يسمح هذا بتقييم مدى إمكانيات ظهور ما يسمى ” بمتلازمة ما بعد الصدمة” وهذا قد يؤدي إلى صعوبات شتى لما يتعلق الأمر بالنسبة للضحايا بإعادة بناء أنفسهم و إعادة إدماجهم في الحياة العادية.
البديل: هل كل العلامات التي تم وصفها، يمكن ملاحظتها بشكل مباشر خلال المقابلة الأولى؟
ناتالي روكايليو: يمكننا اكتشاف العلامات خلال أول لقاء إلا أنها قد تظهر أحيانًا بعد بضعة أيام، في كلتا الحالتين، يهدف الحذيث الأول مع المتضرر إلى خفض الضغط العاطفي. إذا كنت تريد صورة، فهي تشبه إلى حد ما الحرق، فأنت تعمل على السطح على الحرق لمنعه من إحداث المزيد من الضرر والانتشار تحت الجلد.
من الضروري أن تنخفض هذه العتبة العاطفية حتى يتمكن المريض من التعبير أولاً عن وجود نفسه عاجزًا تمامًا فيما يتعلق بما حدث بالنسبة له حيث انه لم يكن قادرًا على حفظ أثاثه وحيواناته ومنزله، أما إذا كان هناك قريب متوفى، فسيكون ذلك عناية أكبر بكثير.
هذا الشعور بالعجز والذعر والضعف والشعور بالذنب في بعض الأحيان، يجب أن يتم التعبير عنه في المقام الأول، بمجرد وضع الكلمات عليه قد تنخفض العتبة العاطفية تدريجيا. لأنه إذا التزمت بها، ستستمر المشاعر في الانتشار بطرق ضارة للغاية، يمكن أن يؤدي هذا التعريف النفسي المرضي إلى الحاجة إلى علاج طويل.
البديل: لن تستبعد التحريات القائمة اليوم السبب الإجرامي لحرائق الغابات في الجزائر والتي أدت إلى العشرات من الضحايا، هل يمكننا في هذه الحالة أن نجد نفس الصدمات؟ (نطرح عليك هذا السؤال بموجب المرافقة السيكولوجية التي قدمها طاقمكي إثر الهجوم الإرهابي لمدينة نيس عام 2016)
ناتالي روكايليو: هناك فرق بين الهجوم الإرهابي والكارثة الطبيعية لأن في عملية ارهابية وساعة النطاق هناك نية القتل مما ينتج عنه صدمة مزدوجة. الفرق بين الهجوم والحدث الطبيعي هو القصد، نية الأذى عندما تكون ناتجة عن تخطيط نابع عن الذكاء البشري فإنها تسبب المزيد من الصدمات، أنه اقتحاما آخر تبنى الصدمة النفسية على العاطفة ولكن أيضًا، دعونا لا ننسى، على المعنى وعلى الرمزية يتم بناء نفسية الإنسان على هذا النحو.
لذلك هناك صفات ودرجات مختلفة من الصدمات النفسية يمكن قياسها من خلال عنف المشاعر التي اقتحمت الاستقرار النفسي والتي تزعزه بقوة: الخوف، والشعور بالعجز والضعف، والذعر، والموت الوشيك. لكن هذه الصدمة تتعزز بشكل مضاعف عندما تكون هناك نية بشرية للإيذاء وراء الفعل الذي ولّدها، إذا كانت النية سياسية فإن هدفها هو القتل من أجل استغلال البشر كأداة. يمكن أن تصيب أي شخص في أي وقت مما يخلق انعدام الأمن النفسي ويهدد السلامة الجسدية والمعنوية إثر هجوم إرهابي مثلا يلاحظ علماء النفس اضطرابات سلوكية قد تؤدي إلى انهيار الأشخاص المعنية ومنعهم من حياة اجتماعية ما دام لم يكن هناك تكفل جدي، ومادام الشروع في التكفل السيكولوجي مبكرا فقد يكون أكثر فعالية.
البديل: هل من كلمة أخيرة؟
ناتالي روكايليو: سيتعين علينا جميعًا أن نكسب ونأخذ هذه الحقائق في الاعتبار لفترة طويلة، ويتعين على كل بلد أن يخلق مساحات لتحرير أصوات الضحايا ولإعادة تأهيل الشعور بالكرامة ولإسترجاع تاريخه، وكل هذا من شأنه أن يعطي شعوراً مجدداً “بالرعاية” التي سيكون لها آثار إيجابية في جميع مجالات الوجود وعلى مدى أجيال.
علاوة على ذلك فإن التأثيرات على القطاع الاقتصادي والاجتماعي والأسري مهمة أيضًا: فالأشخاص الذين لم يعودوا يعانون قادرون على عرض أنفسهم في مستقبل أكثر إيجابية للتعلم والتدريب والإبداع وحب الاخرين بشكل أفضل.
ق.ح