تكنولوجيا

الهواتف المتطورة… رفيق دائم أم عبء نفسي؟

أصبحت الهواتف المتطورة جزء لا يتجزأ من حياتنا اليومية، نُمسك بها مع أول شعاع ضوء، ونضعها بجوارنا قبل النوم، بل وربما نستيقظ من نومنا على نغمة إشعار جديد.


هذه العلاقة اليومية، المستمرة دون انقطاع، أنتجت شكلا من أشكال الارتباط النفسي العميق بين الفرد وجهازه. ومع هذا التعلق، يظهر نوع جديد من القلق يعرف بـ “الخوف من الفقد الرقمي”.

ويقصد به حالة الذعر أو الاضطراب النفسي التي تصيب الشخص عند فقدان الاتصال بهاتفه، سواء بسبب تعطله، فقدانه، نفاد بطاريته أو انقطاع شبكة الإنترنت.

الخوف من الانفصال الرقمي: ظاهرة نفسية متنامية

يشير أخصائيو النفس إلى أن الخوف من الفقد الرقمي لم يعد حالة فردية أو عرضا عابرا، بل أصبح ظاهرة عالمية تؤثر في الأفراد من مختلف الأعمار، لا سيما الشباب والمراهقين.

يظهر كثير من الناس ردود فعل تتراوح بين القلق والانزعاج الشديدين، عند فقدانهم إمكانية الوصول إلى هواتفهم، حتى ولو لبضع دقائق. هذه الحالة قد تتطور إلى أعراض تشبه أعراض الانسحاب لدى المدمنين، مثل التعرق، سرعة نبضات القلب، التوتر والغضب غير المبرر.

الارتباط النفسي بالشاشة الصغيرة

يتعلق الفرد بهاتفه لعدة أسباب؛ فهو وسيلة للتواصل، أداة للعمل، مصدر للترفيه، ومخزن للذكريات. لذلك، فإن أي انقطاع في هذا الاتصال يمثل ضياعا مؤقتا لهوية الفرد الرقمية، ومصدرًا للخوف من فقدان السيطرة على تفاصيل حياته اليومية. يشعر البعض وكأن جزء من وجودهم قد اختفى فجأة، فتغمرهم مشاعر الوحدة، والقلق من تفويت أخبار أو مستجدات، أو حتى الانفصال الاجتماعي، وكأنهم أصبحوا خارج دائرة الحياة.

الفقد الرقمي وتأثيره على الصورة الذاتية

يرتبط الهاتف الذكي بالصورة التي يبنيها الشخص عن نفسه، خاصة في ظل انتشار ثقافة التوثيق المستمر على المنصات الاجتماعية.

وعليه، فإن غياب الهاتف ينظر إليه من قبل البعض على أنه تهديد لهويتهم الرقمية، وصورتهم أمام الآخرين. هذا النوع من الارتباط النفسي يولد توترا مستمرا، ويزيد من الإحساس بالضغط، إذ يشعر الفرد أنه مطالب بالبقاء متاحاً ومتفاعلاً بشكل دائم، وأي انفصال يشعره بالخروج عن المسار الطبيعي.

بين التعلق الرقمي والإدمان الخفي

أثبتت دراسات حديثة أن كثيرا من المستخدمين لا يكتفون بحمل هواتفهم طوال الوقت، بل يشعرون بحاجة ملحة للتحقق منها كل بضع دقائق، دون سبب واضح.

هذا السلوك، رغم ما يبدو عليه من بساطة، يندرج ضمن مظاهر الإدمان الرقمي. وهو ما يجعل من فقد الهاتف أو توقفه عن العمل، صدمة نفسية حقيقية قد تؤدي إلى تقلبات مزاجية حادة، واضطراب في التركيز، وفقدان مؤقت للثقة بالنفس.

تجارب واقعية: حين تتحول الهواتف المتطورة إلى طوق نجاة

“حين سرق هاتفي شعرت بأنني فقدت جزء من ذاتي”، تقول نوال، طالبة جامعية. وتضيف: “لم يكن الأمر متعلقاً فقط بالصور والملفات، بل شعرت فجأة وكأنني معزولة عن العالم، غير قادرة على التفاعل مع من حولي، كأنني لم أعد موجودة”.

مثل هذه الشهادات تتكرر كثيراً، وتعكس حجم التعلق بالوسيط الرقمي، الذي بات يشكّل جسرا أساسيا بين الإنسان وواقعه الاجتماعي، سواء عبر الرسائل أو التطبيقات أو حتى مجرد التصفح العابر.

أثر الفقد الرقمي على الصحة النفسية العامة

تشير البحوث النفسية إلى أن القلق الناتج عن الفقد الرقمي قد يؤدي إلى مشكلات أعمق، منها :

  • اضطرابات النوم.
  • ضعف التركيز.
  • الشعور بالاكتئاب أو فقدان الدافعية.

كما أن الانشغال المستمر بإمكانية فقد الهاتف أو انقطاع الإنترنت يولّد حالة من الترقب والضغط النفسي الدائمين، وهو ما يؤثر سلبا على الإنتاجية والعلاقات الاجتماعية الواقعية.

الحلول الممكنة: نحو توازن رقمي صحي

الوعي هو الخطوة الأولى نحو الحل، فالفرد بحاجة إلى الاعتراف بحجم التعلق الرقمي الذي يعيشه، ثم السعي تدريجيا لفصل ذاته عن الهاتف في بعض الفترات اليومية.

من بين الحلول المقترحة:

  • تحديد أوقات مخصصة لعدم استخدام الهاتف، الاستعاضة عنه بكتب ورقية أو هوايات أخرى.
  • إعادة بناء العلاقات الاجتماعية الواقعية بعيدا عن الوسائط الرقمية.

كما يمكن للتقنيات ذاتها أن تستخدم للمساعدة، مثل تطبيقات مراقبة الوقت، والتنبيهات التي تذكّر المستخدم بالانفصال المؤقت.

نحو فهم أعمق لعلاقتنا بالتكنولوجيا

ليس الهدف من تسليط الضوء على الخوف من الفقد الرقمي الدعوة إلى مقاطعة التكنولوجيا، بل السعي لفهم أعمق لعلاقتنا بها، وضبط هذا الارتباط بحيث يبقى في حدوده الصحية. الهواتف المتطورة ووسائط الاتصال الرقمي أدوات مهمة، لكن لا ينبغي أن تتحول إلى مركز الوجود الإنساني.

فحين يفقد الإنسان ذاته في جهاز، يصبح بحاجة ماسّة لإعادة ترتيب أولوياته، واستعادة توازنه النفسي والاجتماعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى