
عقول العصر الرقمي .. تعد الرقائق الإلكترونية محور الاقتصاد الرقمي الحديث، إذ تقوم بدور المحرك الخفي لكل التقنيات المتقدمة، ويشتد التنافس الدولي عليها بين قوى كبرى تتقدمها الولايات المتحدة والصين، حيث تتحرك كل جهة لحماية نفوذها وضمان عدم تخلفها عن مسار التطور في مجالات الذكاء الاصطناعي والاتصالات والصناعات الحيوية، وتحوّلت هذه الشرائح الدقيقة إلى رمز للقوة الاقتصادية الجديدة التي تقاس بها القدرة على التحكم في البيانات وتسريع الابتكار.
تتجسد أهمية الرقائق في كونها الأساس الذي تُبنى عليه التقنيات المعاصرة فهي تُصنع من السيليكون على شكل شرائح دقيقة، وتُعرف بأشباه الموصلات أو الدوائر المتكاملة، وتنقسم إلى نوعين رئيسيين، الأول شرائح الذاكرة التي تختزن البيانات وتُعامل في الأسواق بوصفها سلعة، والثاني شرائح المنطق التي تُشغّل الأنظمة وتُعد الأكثر كلفة وتعقيدًا، وقد صارت قدرة الدول على امتلاك هذه الفئة المتطورة معيارًا للأمن القومي والتفوق التقني خصوصًا مع توسع استخدام المسرّعات الخاصة بالذكاء الاصطناعي التي باتت ضرورة لشركات التقنية الكبرى.
تداخل هذه الأهمية مع الاقتصاد الرقمي جعل الرقائق تُشبه النفط في قيمتها الاستراتيجية، فالسيارات الحديثة تعتمد على شرائح صغيرة لتحويل اللمس إلى إشارات كهربائية كما أن الأجهزة المحمولة والأنظمة التي تعمل بالبطاريات تحتاج هذه المكوّنات لتنظيم تدفق الطاقة والسيطرة على الأوامر، وهو ما يجعل أي تعطل في الإنتاج يؤثر مباشرة على قطاعات الصناعة والتكنولوجيا والخدمات.
عقول العصر الرقمي .. الهيمنة الصناعية وتحوّل موازين القوة
رغم أن البدايات التقنية في هذا الميدان نشأت داخل الولايات المتحدة إلا أن التصنيع انتقل تدريجيًا إلى تايوان وكوريا الجنوبية حيث تهيمن شركاتهما على المراحل المتقدمة من الإنتاج، فيما تمثل الصين السوق الأكبر استهلاكًا لهذه المكوّنات وتسعى إلى إنشاء صناعة محلية تقلل اعتمادها على الخارج.
في المقابل اتخذت الولايات المتحدة سلسلة إجراءات للحد من صعود الصين، ففرضت قيودًا على تصدير الشرائح المتطورة وفرضت رسومًا جمركية على الواردات وأدرجت شركات كبرى على قوائم تقييد التعاون التقني، كما طالبت مورّديها بالحصول على تراخيص قبل التوريد واستندت في ذلك إلى اعتبارات الأمن القومي واتهامات بعدم احترام المنافسة العادلة.
استمرار هذه الاستراتيجية دفع الإدارة الأمريكية إلى تخصيص تمويل لإعادة التصنيع إلى الداخل والحد من الاعتماد على شرق آسيا، لكن وتيرة التنفيذ تغيّرت مع تغيّر السياسات، إذ جرى التباطؤ في صرف الأموال والاتجاه نحو الضغط عبر الرسوم الجمركية لدفع الشركات إلى الإنتاج داخل الأراضي الأمريكية، وفي الوقت نفسه شرعت دول مثل الاتحاد الأوروبي واليابان والهند والسعودية في ضخ استثمارات لاقتحام هذا القطاع أو توسيع حضورها فيه.
المنشآت العملاقة وسلاسل الإنتاج
تصنيع عقول العصر الرقمي أي الرقائق يتطلب استثمارات هائلة، إذ تتجاوز كلفة المصنع الواحد 20 مليار دولار، ويستغرق بناؤه سنوات ويستوجب تشغيله طوال اليوم لضمان جدواه، وقد أدى هذا الحجم الاستثماري الهائل إلى انحسار عدد الشركات القادرة على إنتاج الشرائح المتقدمة في 3 فقط هي الشركة التايوانية وشركة كورية جنوبية وشركة أمريكية، وتعتمد شركات التقنية الكبرى على هذه القدرات التي تتمركز بشكل خاص في تايوان.
وعلى مستوى الشرائح التماثلية التي تضبط الطاقة والحرارة في الهواتف الذكية، تتصدر شركات متخصصة هذا القطاع، وتعتبر الصين هذا الميدان هدفا لتعويض النقص في المعدات المتطورة التي حُرمت من استيرادها، مما دفعها إلى بناء قدرات محلية لتأمين احتياجاتها وتقليص فجوة التبعية،مع تشديد الولايات المتحدة والضغط على الحلفاء جرى توسيع نطاق القيود، إذ أرجت شركات صينية جديدة ضمن القوائم السوداء واتخذت خطوات لمنع وصولها إلى معدات بناء المصانع ومواد السيليكون وحتى التعاقدات الاستشارية، فيما اتُّخذت إجراءات لاستثمار داخلي في شركة أمريكية تعثرت بهدف تحويلها إلى منافس قادر على مجاراة الشركات الآسيوية.
في موازاة ذلك، واجهت شركات أمريكية تحديات في التصدير إلى الصين، واضطرت إلى إعادة تصميم شرائحها أكثر من مرة بما ينسجم مع القيود المفروضة، لكن الحظر بقي قائمًا على الإصدارات الأكثر تطورًا، كما حدث مع بعض المسرّعات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، ورغم تخفيف مؤقت للتوتر عادت الإجراءات المقيدة سريعًا عبر حث الجهات الصينية على عدم شراء هذه الشرائح.
عقول العصر الرقمي .. سباق الاستقلال التكنولوجي الصيني
الصين تواجه تعقيدات كبيرة في تصنيع الشرائح المتقدمة، لكن جهودها لتطوير بدائل محلية تتصاعد رغم العقبات إذ أطلقت شركاتها أجهزة تعمل بتقنيات ليست حديثة لكنها مُنتجة داخل البلاد وشرعت في بناء شبكة مصانع عبر مناطق متعددة لتوفير تراكم معرفي وصناعي يسمح بتقليص الفجوة.
في عام حديث، استطاعت شركة كبرى طرح هاتف يعمل بمعالج بتقنية متطورة، مقارنة بما تسمح به القيود وهو ما اعتُبر مؤشرًا على تقدم ملحوظ، كما أعلنت عن خطة تمتد لثلاث سنوات تشمل تطوير شرائح الذاكرة ومسرّعات الذكاء الاصطناعي بهدف منافسة المنتجات العالمية الأقوى،إلى جانب ذلك ظهرت شركات ناشئة طرحت نماذج ذكاء اصطناعي تنافس أداء النماذج التي طورتها جهات أمريكية بكلفة أقل، مما أعاد الأمل لسوق التقنية المحلي واعتبرته وسائل الإعلام حدثًا يعزز الثقة في مواجهة القيود الخارجية.
في المقابل، تتحرك كتل دولية أخرى، إذ أطلق الاتحاد الأوروبي خطة استثمارية بهدف مضاعفة إنتاجه إلى 5 السوق العالمية بحلول نهاية العقد، لكن تعرض بعض المشاريع للتجميد بسبب تراجع الوضع المالي لشركة أمريكية أبطأ هذا الطموح، فيما تضخ اليابان وكوريا الجنوبية مليارات لدعم المصانع الجديدة وتعزيز حضور شركاتهما التي تتصدر سوق الذاكرة والمعدات.
الهند بدورها صادقت على استثمارات لإنشاء مصانع محلية، في حين تدرس المملكة العربية السعودية الدخول بقوة في هذا الميدان ضمن توجهها لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على مصادر الدخل التقليدية.
التهديد الجيوسياسي القائم
يبقى الخطر الأكبر الذي يهدد صناعة الرقائق عالميًا مرتبطًا بالوضع في تايوان، فالجزيرة تقع على مسافة قريبة من السواحل الصينية وتعتبرها الصين جزء من أراضيها، ولوّحت بفرض السيطرة عليها عسكريًاإذا لزم الأمر، فيما تعد الولايات المتحدة الداعم الأول لحكومتها
اندلاع صراع في هذه المنطقة قد يؤدي إلى عزل الشركة التايوانية التي تقود الصناعة، وتُعد المحرك الأساسي للنموذج القائم على التصنيع للغير، وقد بنت عبر عقود شراكات مع شركات كبرى مكنتها من صدارة الإيرادات وتجاوز منافسين تاريخيين ومضاهاة قدراتها تحتاج استثمارات ووقتًا طويلًا.
هذا التداخل بين الاقتصاد والسياسة جعل الرقائق تتحول إلى ساحة صراع عالمي، تُقاس فيه قوة الدول بقدرتها على إنتاج التكنولوجيا والتحكم في تدفق البيانات والسيطرة على سلاسل الإمداد ومن المتوقع استمرار هذا التنافس ما دام العالم يتجه نحو مزيد من الرقمنة والاعتماد على الذكاء الاصطناعي والاتصالات المتقدمة.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله