تكنولوجيا

الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي: فرصة تاريخية وتحديات خطيرة

الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي .. يمر البحث العلمي اليوم بمرحلة فارقة تضعه أمام فرصة تاريخية وخطر في الوقت ذاته. فمن جهة يَعِد الذكاء الاصطناعي بقدرة غير مسبوقة على كشف العيوب والأخطاء والتلاعب في الأبحاث العلمية. ومن جهة أخرى قد تتحول هذه القدرات إلى أدوات لتقويض الثقة العامة بالعلم. وهي معادلة معقدة تجعل من المستقبل القريب ساحة اختبار لمصداقية المؤسسة العلمية أمام المجتمع.


 

حدود مراجعة الأقران وتفاقم التحديات

ظل نظام مراجعة الأقران لعقود طويلة الضمانة الأساسية لجودة الأبحاث العلمية. إذ يقوم خبراء متخصصون بفحص الدراسات قبل نشرها للتأكد من سلامة منهجها ودقة نتائجها. إلا أن هذا النظام بدأ يعاني من ضغط هائل بفعل تضاعف أعداد الأوراق البحثية والمجلات.

ومع ازدياد المنافسة الأكاديمية وظهور مصالح تجارية ضخمة. أصبح من السهل على بعض الأطراف استغلال الثغرات لتحقيق مكاسب على حساب النزاهة العلمية. وبرزت ظاهرة ما يمكن تسميته بمصانع الأبحاث التي تقدم خدمة النشر السريع مقابل مراجعات شكلية.

كما تدخلت بعض الشركات الكبرى لتمويل أبحاث موجهة أو كتابة دراسات بأسماء أكاديميين لتلميع منتجاتها أو الدفاع عنها أمام الانتقادات، الأمر الذي أدى إلى اهتزاز ثقة الجمهور بعملية النشر العلمي.

وتبرز هنا نماذج مؤثرة مثل قضية مبيد الأعشاب الشهير الذي أثارت سلامته جدلا واسعا، إذ كشفت التحقيقات أن دراسة أساسية في تبرئة المنتج لم يكتبها العلماء الذين نسبت إليهم. بل أعدها موظفون لدى الشركة المنتجة. وقد استمرت هذه الدراسة في التأثير على السياسات العامة لسنوات رغم انكشاف حقيقتها، وهو مثال يوضح كيف يمكن للثغرات في نظام مراجعة الأقران أن تُستغل لسنوات قبل أن تنكشف.

 

الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي .. أداة للتدقيق العميق

في مواجهة هذه التحديات. ظهرت مبادرات فردية وجماعية لتعزيز نزاهة البحث العلمي. مثل قواعد بيانات تتبع الأوراق المسحوبة أو فرق متخصصة في كشف التلاعب بالبيانات. لكن هذه الجهود تبقى محدودة في إمكاناتها مقارنة بحجم الإنتاج العلمي الهائل.

وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي الذي يمتلك القدرة على تحليل كميات هائلة من النصوص والرسوم البيانية والبيانات في وقت قصير. مما يجعله مؤهلا للكشف عن التناقضات أو التكرار أو الصياغات المصطنعة التي قد تدل على أبحاث مزيفة . بل ويمكنه تتبع أنماط الاقتباس لمعرفة القيمة الحقيقية لأي ورقة بحثية ومدى تأثيرها الفعلي في المجال العلمي.

كما بدأت أنظمة متطورة بالظهور قادرة على فحص الصور والرسوم العلمية لاكتشاف التلاعب أو النسخ. وهناك مشاريع تهدف إلى اختبار صحة البراهين الرياضية المعقدة التي قد يعجز المراجعون البشر عن تدقيقها بدقة. وإذا تم توفير الوصول الكامل لهذه الأنظمة إلى قواعد البيانات البحثية العالمية.

فإنها ستكون قادرة على إجراء مراجعة شاملة قد تكشف ليس فقط عن حالات الاحتيال المباشر. بل عن كم هائل من الأبحاث الروتينية عديمة التأثير، وهو أمر قد يغير نظرة المجتمع إلى حجم الإنجازات العلمية الفعلية.

 

مفارقة الفرصة والخطر

رغم ما يَعِد به الذكاء الاصطناعي من قدرة على تنقية السجل العلمي. إلا أن هذه العملية تحمل مخاطر كبيرة إذا لم تُدار بحذر، فالكشف عن حجم الأبحاث غير المؤثرة أو المليئة بالأخطاء قد يستخدم من قبل جهات مناهضة للعلم للترويج لفكرة أن المنظومة العلمية بأكملها معطوبة.

مما قد يؤدي إلى تقويض الثقة بها على نطاق واسع، ويزداد الأمر خطورة إذا اعتبر الجمهور أن نتائج الذكاء الاصطناعي محايدة تماما، إذ قد يمنح ذلك مصداقية إضافية لروايات مضللة تستخدم هذه النتائج لتشويه صورة البحث العلمي.

الحل لا يكمن في إخفاء العيوب أو إنكارها، بل في أن يقود المجتمع العلمي عملية الكشف بنفسه وبأقصى قدر من الشفافية، مع إعادة صياغة صورة الباحث في نظر الجمهور باعتباره جزء من جهد جماعي طويل الأمد يقوم على التجربة والخطأ، وليس بطلا معصوما يحقق اكتشافات خارقة بمفرده.

فالعلم في جوهره ليس خاليا من الأخطاء بل يقوم على تصحيحها باستمرار، وهذه الحقيقة إذا قُدمت للجمهور بصدق ستجعل ستجعل العلم أكثر قدرة على الصمود أمام أي حملة تشويه أو تضليل.

 ياقوت زهرة القدس بن عبد الله

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى