
لم تعد قدرة الالات على جمع البيانات وتحليلها تثير الدهشة كما كانت من قبل، فقد تجاوز العالم الرقمي حدود المعالجة البسيطة للأوامر. ليدخل في مرحلة أكثر تعقيدًا وحيوية، تعرف ب الحوسبة الإدراكية. هذا المفهوم، الذي ينظر إليه كثيرون كامتداد للذكاء الصناعي، لا يقتصر على الأتمتة أو سرعة الأداء، بل يحاكي الطريقة التي يفكر بها العقل البشري، ويتفاعل مع المعلومات كما لو كان “يفهمها”
في الحوسبة الإدراكية، لا تقوم الأجهزة فقط بحفظ المعلومات أو معالجتها، بل تفسرها وتربط بينها. وتستخلص منها استنتاجات. وتتعلم منها مع الوقت. هي أنظمة تحاكي الإدراك البشري، بمعنى أنها “تدرِك” بيئتها من خلال مدخلات متنوعة كالصوت والصورة والنص، وتكوّن ردودًا مبنية على السياق . وكأننا أمام كائن رقمي يفكر ويحكم، لا مجرد الة تحفظ وتنفذ.
لكن السؤال المثير هنا لا يتعلق بالتقنية نفسها، بل بتبعاتها. فإذا ما كانت هذه الأنظمة قادرة على اتخاذ قرارات بناءً على تحليلها الخاص. فما الذي يمنعها من رفض أو تعديل التعليمات البشرية إن رأت أنها غير مناسبة؟ هل الحوسبة الإدراكية أداة لتسهيل حياة الإنسان أم بوابة لفقدان السيطرة على التكنولوجيا؟.
الحوسبة الإدراكية تقترب من العقل البشري وتعيد تشكيل حدود الذكاء
تقوم الحوسبة الإدراكية على بناء نماذج تحاكي الدماغ البشري في طريقة فهمه للبيانات واتخاذه للقرارات. وهو ما يعني أن المسافة بين الإنسان والآلة تتقلص شيئا فشيئا، لم نعد نتحدث عن حواسيب تنفذ المهام، بل عن أنظمة تقترح وتخطط وتحلل المشاعر والسلوك وتفهم اللغة بطريقة أقرب إلى تفكير الإنسان منها إلى منطق البرمجة التقليدية
في مجالات مثل الطب، أصبحت الحوسبة الإدراكية شريكًا في التشخيص والتخطيط العلاجي، بل وتوقّع تطور الحالات الصحية بناءً على ملايين الحالات السابقة. وفي التعليم، بات من الممكن تصميم محتوى يناسب شخصية كل طالب، ونمط تعلّمه، واهتماماته، بفضل هذه الأنظمة. أما في الأعمال، فهي تُسهم في التنبؤ بسلوك الأسواق وتقديم اقتراحات ذكية قد تفوق التوقعات البشرية.
ومع هذا التقدم، يبرز تساؤل جوهري: إذا كانت هذه الأنظمة قادرة على التفكير واتخاذ القرار، فمن المسؤول عنها؟ من يتحمل العواقب إذا أخطأت؟ وهل يمكن للآلة أن تُحاسب؟ نحن نقف أمام تحول فلسفي قبل أن يكون تقنيًا، إذ لم تعد “المسؤولية” حكرًا على البشر في هذا النموذج الجديد.
الإدراك الرقمي يفرض واقعا جديدا على المجتمعات
الحوسبة الإدراكية لا تدخل البيوت أو المصانع فقط، بل تعيد تشكيل بنية المجتمعات نفسها، فعندما تبدأ الجهات الحكومية في الاعتماد على أنظمة تحليل سلوكي للتنبؤ بالجريمة أو تحسين توزيع الموارد، تصبح التقنية عنصرا مشاركا في القرار السياسي والاقتصادي. وعندما يتعامل الفرد يوميا مع مساعد رقمي يفهم حالته النفسية ويقترح عليه قرارات حياتية، فإننا أمام علاقة جديدة بين الإنسان والتقنية.
في هذا العالم، تصبح البيانات هي الوقود، والحوسبة الإدراكية هي المحرك، لكن من يتحكم في هذا المحرك؟ من يضبط اتجاهه؟ ومتى نعلم أن الآلة تجاوزت دور الأداة وأصبحت فاعلًا؟ هذه الأسئلة ليست مجرد مخاوف خيالية، بل قضايا حقيقية بدأت تظهر بوادرها في مواقف قانونية وأخلاقية متعددة حول العالم.
إننا نعيش زمنا يقترب فيه التفكير الرقمي من الإدراك البشري بدرجة غير مسبوقة، ما يفتح آفاقًا عظيمة للابتكار والرفاه، لكنه في الوقت ذاته يستدعي يقظة شاملة بشأن الخصوصية، الهوية وحدود سلطة التقنية. فالحوسبة الإدراكية ليست مجرد برمجة ذكية، بل عقل جديد يولد في قلب التكنولوجيا، وقد يحمل معه ما لم نتوقعه.
ياقوت زهرة القدس بن عبد الله