
تعشق الصمت وملاذها الهدوء، صديقة الوحدة ومؤنسها الإلهام، تتنفس بعمق وحياتها عشق… عشق لكل ما هو جميل في هذا العالم، وكل ما يزيد من جمال هذه الحياة، تنتصر للحق أيا كان صاحبه، لا تفرق بيت القوي والضعيف ولا بين الغني والفقير، تحارب الظلم والقهر أينما كان، بطريقتها الناعمة، تسبقها دمعتها قبل ابتسامتها، مرهفة الحس، لا تشكي ما يشغلها بل تترجمه أناملها عبر الكتابة، الريشة، وحتى الموسيقى، هي عاشقة للحيوانات، تقاسمها مجموعة قطط وكلاب يومياتها بالبيت، إنها الفنانة التي جمعت مختلف مشارب الحياة الثقافية بين الشعر، الرواية، القصة، المسرح، الفن التشكيلي، إضافة إلى الموسيقى، إنها الفنانة “أمينة الأطرش” ابنة المجاهد الفذ “محمد حسان” الذي غادرنا منذ 3 أشهر إلى دار البقاء، بعدما لبى نداء الوطن خلال الثورة التحريرية ورفض العيش الرغيد الذي كانت تتمتع به عائلته.
عائلة محافظة… الكتاب لديها مقدس
تربت “أمينة الأطرش” في عائلة محافظة، فقد كان اللعب خارج المنزل مع أترابها غير مسموح لها رفقةإخوتها، وإنما هناك قانون خاص في البيت من قبل الوالدين يسري على كل الأولاد، ويتعلق الأمر ببرنامج يومي مسطر، يخص فترات اللعب، المراجعة المدرسية، المطالعة وممارسة كل واحد للهواية التي يرغب بها.
فكانت “أمينة”، من عاشقات الحياكة، وقد ورثت هاته الحرفة عن والدتها، ثم أن والدها كان يعود في نهاية الأسبوع بكيس حاجيات، يضيف لها كتابين باللغتين العربية والفرنسية، ليطلب من أولاده أن يقدموا ملخصا حول الكتابين في الغد عقب صلاة الجمعة، ومناقشة المحتوى، ليتمكن من معرفة من اطلع على الكتاب ومن أخفق، على أن يقدموا ملخصا بالعربية وآخر للكتاب بالفرنسية. ورغم صغر سنها، إلا أن والد “أمينة” اكتشف أن لها طريقة خاصة في التلخيص وهو ما جعله يحرص على تشجيعها.
غرام “أمينة” بالمطالعة لم يبعد شغفها بالموسيقى، بل تعداه لتردد أغاني فناني المشرق، على غرار أم كلثوم، اسمهان، فريد الأطرش، عبد الحليم وغيرهم، فقد كانت تحرص على مطالعة الكتب ومصاحبتها بتشغيل الموسيقى، كما كان لجسدها متعة ممارسه الرياضة مثلما يستمتع عقلها بالثقافة. غير أنها كانت قليلة الأصدقاء وغير مقبلة على التعارف، فكانت مكتفية بشلة صغيرة من الأصدقاء، وقد كان للوالد رحمه الله دور في ذلك، فقد كان يشجعهم على المطالعة، يقولها: “عوض خروجكم إلى الشارع وإنهاك أجسادكم واتساخ ملابسكم، الأفضل أن تستلقوا على فراشكم وتستمتعوا بالراحة وفي نفس الوقت تستمتعون بقراءة الكتاب”. وهي الطريقة التي جبلت عليها “أمينة” فأصبحت من صديقة الكتب ومتعتها بالوحدة، لتحول ساعتها البيولوجية إلى نشطة في الليل (تكتب، نرسم…) وتمارس الحياة العادية في النهار، وإلى اليوم تقوم “أمينة” بكل أعمالها الفنية خلال الفترة الليلية، بينما تقضي ساعات الصباح في النوم لاسترجاع أنفاسها.
وقد كانت من العادة لدى العائلة مناقشة كل الأمور على طاولة الأكل، وقت اجتماعهم حول الطعام وتأخذ القرارات هناك، في وقت كان والدها يعلمهم فنون التواصل والاتصال، عبر منحهم حرية التعبير وإبداء الرأي في كل المواضيع التي تطرح، وهو ما جعل من أمينة اليوم امرأة منصتة أكثر منها متحدثة.
الكتابة صديقة وحلقة الأصدقاء ضيقة
تعودت “أمينة” على تدوين الأفكار التي تأتيها أو تجول في خاطرها في أي موقع كانت، فقد كانت تصحب معها دوما كراسة تدون فيها ما يخطر على بالها في تلك اللحظة، لتحولها فيما بعد وتجمع تلك الأفكار في المساء وتنطلق في كتابة قصص قصيرة.
وقد كانت تركز كتاباتها على قصص الحب البريء، لأنها من المهتمين بمطالعة كتب الرومانسية، وهذا ما يتجلى في علاقاتها الواقعية، إذ إنها ليست سهلة التواصل وإنما تختار من ترتاح له فقط، وإذا أحست بنوع من الشعور غير المريح، تسارع لقطع العلاقة بكل سهولة، فهي ترى أن الصداقة أو العلاقة الناجحة بين مختلف الأفراد، وليس المرأة والرجل فقط تعتمد على المشاعر المتبادلة والاهتمام، إضافة إلى الثقة طبعا.
شغف “أمينة الأطرش” بالمطالعة والكتابة، أهلها لتشارك في كل المسابقات التي تنظمها المؤسسة التربوية التي كانت تدرس بها، وقد كانت تحوز على المراتب الأولى غالبا. مغرمة بمؤلفات “محسن عبد القدوس، طه حسين، رشيد بوجدرة، مالك حداد، مولود فرعون، محمد ديب وغيرهم من الكتاب الذين صنعوا الحدث بأعمالهم الأدبية.
الدموع التي شكلت “صرخات”
في 2016، نشرت “أمينة الأطرش” أول مؤلف شعري لها عنونته بـ “صرخات” عن “دار القدس” بوهران، وقد زينت غلافه لوحه فنية، تحمل شخصها من تصميم زوجها الصحفي سابقا “حسين ديلمي”، عندما كانت رفقته بالقطار بإيطاليا خلال شهر العسل. كانت أمينة قد أحبت طريقة والدها في القراءة سواء الشعر أو القران الكريم أو الكتب الأدبية والجرائد. وخلال دراستها للأدب والفنون بعدما درست الأدب الفرنسي بجامعة السانيا، وتحصلت على الماجستير في هذا التخصص، واصلت دراسة “الأدب والفنون” ونتبع فيه الدكتوراه.
في 2016 تواصل معها الأستاذ “منصوري لخضر” كان رئيس قسم الفنون بجامعة السانيا ودعاها للمشاركة في إحدى المسابقات الأدبية، التي نظمت حول كتابة الشعر، من طرف إحدى الشاعرات، وشجعها زوجها على دخول المسابقة، فكان لها ذلك غير أنها خلال المسابقة شعرت بأنها ظلمت ولم تنل المرتبة التي تستحقها فعلا، لاسيما وأنها شاركت بثلاثة قصائد، هذه الحادثة التي أثرت فيها كثيرا وجعلتها تذرف الدموع، ليعود زوجها إلى تشجيعها على خوض تجربه الكتابة، كتحد لها في حد ذاتها.
بعد تردد خاضت التجربة، فكان مولودها ديوان “صرخات”، وهو عبارة عن مجموعة شعرية تناولت فيه مختلف قصص الظلم التي عاشتها أو عاشها غيرها ممن عرفتهم، وقد كانت تنزف حنا وتحكي ألما عن وجع البعد، الفراق، اليتم، التشرد والظلم، جاءت عناوينها مثيرة على غرار القدس قدسنا، يا أمي، وفاه متشرد، رحلة إلى السماء، يوم أتهيبه، حروف الكرام، إلى أين المفر، الصمت الرهيب، مسافات، تساؤل، عذرا… وهي بعض العناوين لقصائد تحمل غالبا مشاعر امرأة تمر في الأزقة والأحياء الشعبية وتلتقط أنفاس ساكنيها.
فأمينة من عشاق الأحياء الشعبية القديمة، التي تفوح منها رائحة القصص الدفينة من جدرانها، وتتراءى أسرار حياة عائلاتها على وجوه ساكنيها، فكل قصيدة تحمل قصة مميزة، تفيض شعورا يلامس قارئه. كما أن هذه القصائد تحمل أيضا قضايا أمة، فقد تناولت القضية الفلسطينية عبر قصيدة “القدس قدسنا” كذلك بالنسبة للجزائر التي تتنفس حبها والحال بالنسبة لمسرحيتها “ثورة كهينة” التي تحكي قصة طبيب نفسي وامرأة قصدته للعلاج، فيدخل الثنائي في قصة شخص ثالث ويتعلق الأمر بامرأة أخرى، من خلال معاناتها تعالج قصة شعب يناضل ضد قيود الاضطهاد والحقرة، كما أنه سبق لها وأن اقتبست من مسرحية القطار الأخير للكاتب الهولندي “كيم فان افنينخ”، التي اعتمدتها خلال تخرجها بمناسبه نهاية دراساتها الجامعية.
ولهؤلاء دورا في تشكيل “أمينة الفنانة”
تعكف الفنانة “أمينة الأطرش” على التحضير لعدة أعمال، منها رواية باللغة الفرنسية وأخرى باللغة العربية، وتستعد لإطلاق ديوان شعر، فيما تواصل الاجتهاد للانتهاء من كتاب حول شهيد المسرح “عبد القادر علولة”، لكن ليس من وجهة نظرة الفن، بل من زاوية “علولة الإنسان” الذي انتصر الضعيف فوق الركح وفي الحياة اليومية، لتقدمه لجمهوره بطريقة مختلفة وتكشف عن نقاط ظل لأول مرة النار.
إلى جانب استمرارها في النحت ورسم لوحات قصد عرضها، ومنح المشاهد فرصة التنفس والتعبير عن رؤيته الخاصة للمشاهد التي تجسدها وفق “الفن التجريدي”، الذي يمنح كل مشاهدة أحقية ترجمة الألوان وشكلها حسب رؤيته الخاصة. ويبقى المسرح من أهم العوالم الفنية التي تتجهز لدخوله بقوة، من خلال تجسيد مسرحيتها التي تحضر لنشرها وذلك كونها درست فنون الإخراج، فهي مخرجة مسرحية أيضا، وفي هذا الإطار، فهي ممتنة كثيرا للأستاذ الفنان الراحل “حمومي”، كما ساعدها كذلك في عالم الكتابة بصفه عامه الأستاذ “هشام سقال” والأستاذتين “إدريس وأنوال”.
شغف “أمينة” بالفن وبحثها الدائم عن الجمال، ليكتمل في عالم يشهد ويعيش الفوضى، فوضى الكلام، فرط الحركة، فرط المشاعر التي تحولت إلى سيوف جارحة، فاتسعت رقعة الجريمة وتراجع صوت الحكمة، ما دفع بها إلى الإبقاء على ريشة الألوان بيدها لتمزجها وتتوه في عالم الفن التجريدي الذي منحها فرصه التعبير عما يخالجها من مشاعر الحزن، الألم، الأمل… فهي تختصر قصصا مجتمعية حزينة مليئة بمتاعب الحياة في لوحات تلامس نفسية من يطلع عليها ليفسرها حسب زاويته تمزج بين الألوان الحارة التي تعكس متعة الحكايات التي تسمعها من غيرها، لاسيما المرأة التي ترى أنها تحمل جزء من مسؤولية الدفاع عنها وإيصال رسائلها عبر أروقة الفن، وقد كان للصديقة الفنانة التشكيلية و صاحبة دار العرض التشكيلية “سيلانس هول” الأستاذة الجامعية “شهرزاد قرايه” دور هام في تشجيع”أمينة” على حمل الريشة والتلوين عبر اللوحات من أجل عرضها، ناهيك عن زوجها الذي يشجعها على كل خطوة يرى فيها، إضافة لها ودعما نفسيا تعبر فيه عن مشاعرها وأفكارها.
الفن دفاع ناعم عن المرأة وانتصار للمظلوم
“أمينة” ليست ككل النساء فهي امرأة اختارت أن تدافع عن المرأة وقضيتها بطريقتها الخاصة، دون الخروج عن الأعراف والقواعد التي حددها الإسلام، فهي ترى أن المرأة ليست سلعة ولا خادمة للرجل وإنما هي تكمله ولها الحرية في التصرف ما دامت لا تضر غيرها، ولتحقيق مبتغاها تعمل على تناول موضوع المرأة بمختلف الجوانب الفنية، حتى تترجم كل رغبات المرأة وآمالها وآلامها وفق ما يفهمه المتلقي سواء بالكتابة أو الألوان أو الموسيقى.
دفاع “أمينة الأطرش” عن المرأة لم يثنها عن الدفاع عن الإنسان في المطلق، فهي تنتصر لكل مظلوم في هذه الحياة دون حدود جغرافية أو مساحة تاريخية، فمسرحية “ثورة كهينة” مثلا هي قصه امرأة التقتها عند صديقتها، فعرفت منها درجة الظلم الذي تعرضت له في هذه الحياة ولتأثرها بالقساوة التي عاشتها تلك المضطهدة، حولت مأساتها إلى مسرحية، فأعمالها تعتمد كثيرا على معايشتها لواقع الناس من خلال زيارتها للأحياء الشعبية خاصة والاطلاع على حقيقة المواضيع التي تتناولها.
“أمينة” ترى الفن وسيله لمعالجة أمراض المجتمع، وليس استغلالا للتهريج وإضحاك الناس دون هدف، فالفن له أخلاقياته وله أهله بالخصوص وليس كل من حمل ميكروفون أو تقمص دورا أو رسم على لوحة هو فنان، إنما الفنان هو من يفرض احترامه على الجمهور ويقدس حرمة الجمهور لأن الرسالة هي العنصر الأساسي الذي يربط الفنان بجمهوره.
أعدته: ميمي قلان